اتفاقية المياه في تعز.. هل تنقذ المدينة أم تكرس سيطرة الحوثي على الحياة؟ (تقرير موسع)

  • هاشم علي - الساحل الغربي:
  • 09:26 2025/07/08

في مدينة تعز المحاصرة حوثيًا، لا شيء يُنهك سكانها أكثر من رحلة البحث عن المياه الصالحة للشرب؛ فمنذ أيام تصاعدت أزمة مياه الشرب إلى حد لم تشهده المدينة منذ بداية الحصار الحوثي، واضطر كثير من السكان للتنقل بين الأحياء بحثًا عن ما يروي عطش عائلاتهم، في وقت قفزت فيه سعر الصهريج سعة 20 لترًا إلى نحو 1500 ريال يمني وهو ما يعتبره كثيرين مبلغًا كبيرًا مقارنة بسعر ما قبل الأزمة الحالية.
 
يقول المواطن محمد أحمد، وهو من سكان حي البعرارة وسط مدينة تعز، لـ "الساحل الغربي": "نعاني من عدم حصولنا على مياه الشرب.. من كان يتوقع أن نصل إلى هذا الوضع؟ نحن نعيش في ظل سلطة محلية لا تتخذ أي اجراءات تجاه الأزمات التي تحل بنا ولا تلتفت لمعاناة الناس".
 
ويضيف: "اليوم اضطررت أمشي من حي البعرارة إلى وادي القاضي بحثًا عن مياه الشرب، والحمد لله بعد تنقلي بين المحلات والبقالات قدرت أعبي اسطوانة 20 لتر بسعر 1500 ريال، بينما قبل أسبوع كان سعرها 300 ريال.. هذه الأزمات المفتعلة وراها تجار ومسؤولين يريدون أن تعز تبقى شبيهة لغزة".
 
ويتهم هذا الرجل محطات التحلية أنها باتت تستغل معاناة أبناء مدينة تعز، ضمن استراتيجية معينة تهدف إلى ممارسة ضغوطًا واضحة على السلطة المحلية لتخصيص آبار داخل المدينة تزويدهم بالمياه بأسعار مناسبة، تحت ذريعة أن كلفة النقل من الآبار البعيدة في وادي الضباب لم تعد مجدية.
 
ويشير في حديثه: "الناس تموت من العطش، والمحطات بدل ما تخفف، زادت الطين بلّة.. كل يوم نسمع إنهم يطلبوا آبار من قلب المدينة عشان مصالحهم، مش عشان الناس"، مؤكدًا أن هذا السلوك حوّل المياه إلى سلعة يتحكم بها التجار، بينما يبقى المواطن في الصف الأخير يعاني ويبحث عن قطرة ماء.
 
هذه المعادلة المختلة، بحسب مراقبين تُعمّق أزمات المدينة وتحوّل المياه إلى سلعة يتحكم بها رأس المال في ظل فراغ رقابي ومؤسسي كبير، وتكشف عن صراع خفي بين مراكز نفوذ اقتصادية وسلطة محلية عاجزة، بينما تبقى النتيجة واحدة ليصبح العطش كقدر يومي لمئات الآلاف من سكان تعز.
 
 
بنود الاتفاقية
 
في خضم هذا العطش، أعلنت الأمم المتحدة مطلع يوليو الجاري، عن اتفاقية فنية مشتركة بين مؤسستي المياه في مدينة تعز والحوبان، تهدف إلى إعادة تشغيل أهم حقول المياه المتوقفة منذ سنوات، في خطوة وصفت بأنها "ذات طابع إنساني وحيادي"، لكنها أثارت جدلًا واسعًا حول مضمونها، وتوقيتها، والجهة التي ستتحكم فعليًا بمصدر الحياة الأول في مدينة أنهكها الحصار.
 
وكشفت مصادر مطلعة لـ "الساحل الغربي"، أن الاتفاقية تتضمّن جملة من البنود الإدارية والفنية، موزعة على تسع مواد رئيسية، تبدأ بتحديد أهدافها العامة، والتي تشمل "تخفيف معاناة السكان في تعز والحوبان، وضمان التوزيع العادل للمياه"، إلى جانب "تحسين كفاءة التحصيل المالي وترشيد الاستهلاك"، وفق ما ورد في نص الاتفاق.
 
يوضح المصادر أن الاتفاقية تنص على إنشاء لجنة فنية مشتركة من المؤسستين، تتولى الإشراف على تشغيل الآبار وتوزيع المياه وصيانة الشبكة، مع التأكيد على أن المياه ستضخ عبر الشبكة الرئيسية التابعة للمؤسسة المحلية، وأن الخزانات العامة ستكون هي النقاط الرسمية للتوزيع.
 
وتشمل المرحلة الأولى من الاتفاق، بحسب الوثائق، تشغيل وتأهيل 13 بئرًا من حقلَي الحيمة وحُبير، وهما من أكبر الحقول المائية التي تغذي مدينة تعز، وتقعان ضمن مناطق خاضعة لسيطرة جماعة الحوثي شرقي المدينة.
 
وتضيف المصادر أن بنود الاتفاقية تنص على أن الآبار ستغذي خزانات المؤسسة المحلية، على أن يُعاد توزيع المياه منها إلى السكان وفق معايير تعتمد على الكثافة السكانية والاحتياج، وتُحددها اللجنة الفنية المشكلة من الجانبين.
 
وبحسب الاتفاق، فإن التمويل الكامل لهذه المرحلة سيتم عبر المنظمات الدولية، بما في ذلك إعادة تأهيل الشبكات الفرعية والرئيسية، وتزويد مناطق الحقول بحصص مباشرة من المياه.
 
وتنص المادة الثالثة من الاتفاقية على تشكيل فريق فني مشترك من المؤسستين، بعدد متساوٍ من الأعضاء، يتولى مهام التشغيل والتخطيط والتحصيل، وتقديم تقارير شهرية إلى الجهات المشرفة.
 
وتتضمن مهام الفريق اقتراح تسعيرة مناسبة للمياه تراعي الكلفة التشغيلية ومعدلات الإهلاك واستعادة الكلفة، على أن تُراعى القوانين المنظمة، خاصة القانون رقم (20) لسنة 2001، بشأن إنشاء المؤسسة المحلية للمياه والصرف الصحي.
 
لكن هذا الترتيب الفني يثير شكوكًا لدى البعض، نظرًا لأن سيطرة جماعة الحوثي على الحقول قد تمنحها نفوذًا عمليًا على مسار الضخ والتوزيع، حتى ضمن إطار اللجنة المشتركة.
 
فيما تضمنت المواد الخامسة والسادسة، آليات الرقابة والتنفيذ، وتشمل تركيب عدادات مركزية لقياس كميات المياه المنتجة والموزعة، وتنفيذ نظام تقارير دورية لتقييم الأداء والتحقق من العدالة في التوزيع، واعتماد الاتفاق رسميًا من قبل الممثل المقيم للأمم المتحدة، وبدء سريانه من تاريخ التوقيع.
 
وتشير المصادر إلى أن المادة السابعة من الاتفاق تنص على بدء تنفيذ الاتفاق مباشرة بعد التوقيع، دون الإشارة إلى أي فترة تجريبية أو شرط مسبق لمراقبة التزام الطرفين.
 
وتعتبر مدة الاتفاقية، وفق المادة الثامنة، مفتوحة وقابلة للتحديث أو التعديل بتوافق الطرفين، ما يمنحها طابعًا مرنًا طويل الأمد، وفي حال حدوث أي نزاع بين الطرفين، تنص المادة التاسعة على اللجوء أولًا إلى اللجنة الفنية المشتركة، وإذا تعذر حل الخلاف، تُحال القضية إلى جهة محايدة وهي "كتلة المياه والإصحاح البيئي" بقيادة منظمة اليونيسف.
 
 
سخط شعبي
 
رغم أن الاتفاق يبدو فنيًا ومنظمًا من حيث الشكل، إلا أن توقيعه في ظروف غير متكافئة، وفي ظل حصار عسكري واقتصادي طويل تفرضه جماعة الحوثي على المدينة، يجعل منه محلّ شك في نوايا التنفيذ والضمانات؛ فالحقول المائية التي تُعاد تشغيلها تقع جميعها تحت سيطرة مليشيا الحوثي، فيما يُطلب من مدينة تعز المحاصرة والمحرومة من المياه أن تثق في طرف ظل يستخدم هذه الموارد كورقة ضغط وابتزاز طوال سنوات الحرب.
 
بهذه المعطيات، يتحول الاتفاق من مجرد ترتيبات مائية إلى وثيقة تمسّ توازن القوى داخل مدينة منهكة، وتفتح بابًا جديدًا للجدل حول من يتحكم بالحق في الحياة، في واحدة من أكثر المناطق اليمنية عطشًا وجدلًا.
 
يتحدث أصيل عادل، أحد سكان مدينة تعز، لـ "الساحل الغربي" أن ما يُتداول عن اتفاق برعاية المنظمات الدولية وعلى رأسها منظمة اليونيسف، لضخ المياه إلى المدينة من مناطق سيطرة الحوثيين، يثير مخاوفه ومخاوف كثير من السكان.
 
ويضيف: "الاتفاق بشأن ضخ المياه من مناطق مليشيا الحوثي شيء لا نرضاه، ولا نقبل أن يكون مصيرنا بيد جماعة تحاصرنا وتقتلنا من عشر سنوات". ويتابع بغضب: "نحن نطالب السلطة المحلية بالتحرك لفتح الآبار داخل المدينة، لكن بعض المسؤولين يفتحوها لمصالحهم الخاصة.. أين الدولة؟ أين الأمانة؟ الناس تموت عطش".
 
ويؤكد الؤجل بقوله: "نحن لا نطالب بشيء مستحيل.. نريد فقط أن نحصل على الماء، حقنا البسيط.. ولا نريد أن نسمع عن اتفاقيات قد تتحول إلى ابتزاز.. نريد حل حقيقي من السلطة المحلية، ونريد دولة تحمينا وتوفّر لنا حقوقنا".
 
هكذا لاقت الاتفاقية الفنية موجة سخط شعبي عارم في أوساط سكان مدينة تعز، الذين عبّروا عن رفضهم القاطع لأي ترتيبات تجعل من جماعة الحوثي طرفًا في إدارة ملف المياه الحيوي.
 
ويرى مواطنون أن الاتفاق يمثل خطرًا مباشرًا على سيادة المدينة وكرامة سكانها، إذ يربط شريان الحياة بمناطق تسيطر عليها جماعة إرهابية طالما استخدمت المياه كسلاح عقاب جماعي، وهذا ما يثير مخاوف الناس من أن تتحول المياه إلى أداة ابتزاز سياسي في أي لحظة، خصوصًا في ظل انعدام الضمانات وغياب الثقة الكاملة في الطرف المقابل، ناهيك عن تأكيد الكثير بأن التعامل مع الحوثي كمزوّد للخدمة هو تجاوز أخلاقي ومجتمعي لا يقل خطورة عن استمرار الحصار ذاته.
 
 
 
إجراءات طارئة
 
وسط هذا الجدل، دخلت شرطة محافظة تعز على خط الأزمة، عبر بيان رسمي أكدت فيه أنها لن تقف مكتوفة الأيدي حيال تفاقم أزمة المياه، ملوّحة بإجراءات ضابطة في حال استمر التقاعس.
 
وفي البيان وجه مدير عام الشرطة العميد منصور الأكحلي كافة الإدارات والأقسام الأمنية والعقال والحملة الأمنية بـ "التعاون الكامل مع الجهات المعنية في ضبط المخالفات والتجاوزات المتعلقة بخدمة المياه، ودعم الحلول العاجلة لضمان حصول المواطنين على مياه الشرب".
 
ووفق البيان فإن الشرطة "ستتدخل بإجراءات حاسمة إذا لم تعمل الجهات المعنية على حل الأزمة خلال 24 ساعة"، داعيًا إلى "استشعار المسؤولية الوطنية والإنسانية، والحد من تفاقم المعاناة".
 
وفي المقابل، وجّه محافظ تعز، نبيل شمسان، المؤسسة المحلية للمياه والصرف الصحي، بتخصيص 500 ألف لتر من المياه لمحطات تحلية المياه في المدينة، وذلك لمعالجة العجز وتغطية النقص الحاد في إمدادات المياه للسكان.
 
ويأتي هذا التوجيه في ظل تراجع حاد في مستوى المياه الجوفية، وانخفاض إنتاجية آبار الضباب التي كانت تغذي محطات التحلية، حيث أشارت تقارير ميدانية إلى نضوب عدد من الآبار نتيجة الجفاف وشح الأمطار خلال الأشهر الماضية.
 
ويوضح وكيل المحافظة لشؤون الخدمات، المهندس رشاد الأكحلي، أن هذه التوجيهات تأتي ضمن حزمة من الإجراءات الطارئة التي اعتمدها المحافظ، بالتنسيق مع الجهات المعنية، لضمان استمرار تزويد السكان بالمياه، والحد من تفاقم الأزمة.
 
ويؤكد الأكحلي أن السلطات المحلية بصدد اتخاذ إجراءات رادعة ضد أي محطات تحلية أو بقالات تقوم باحتكار المياه أو رفع أسعارها، مشددًا على أن تحديد السعر الرسمي للمياه، سواء بالجملة أو بالتجزئة، سيتم بعد تزويد المحطات بالمخصصات الجديدة من المياه، وفق خطة توزيع عادلة تشمل كافة الأحياء السكنية في المدينة.
 
أتت هذه الإجراءات وسط تصاعد شكاوى غالبية السكان من انعدام المياه وارتفاع أسعارها بشكل غير مسبوق، في وقت تعاني فيه مدينة تعز من أوضاع إنسانية وخدمية بالغة الصعوبة، نتيجة الحصار والانقسام الإداري وتراجع مستوى البنى التحتية.

ذات صلة