01:57 2025/03/12
11:59 2024/11/25
10:45 2024/11/14
استعلاءات يمنية
09:48 2021/01/01
للجماعات وللمجتمعات أمراضُها الخاصة بها، كما الأجسام تماما. وعادة ما تنشأ هذه الأمراض من فراغ في البنية المؤسسية للدولة، أي دولة، في أي مكان، وفي أي زمان أيضا.
ولأننا لا زلنا نعيش مرحلة ما قبل الدولة فإن ثمة أمراضًا اجتماعية تستوطن هوية هذه الجماعات والمجتمعات على حد سواء، تختلف فقط من فئة إلى أخرى، بحسب المحددات الموضوعية لها، اجتماعيا وسياسيا؛ علما أن بعض هذه الأمراض موجودة أيضا حتى في كثير من المجتمعات المتقدمة، تختلف في التفاوت فقط.
ببعضِ التأمل في استجلاء الصورة "جشطالتيا" نخلص إلى استكشاف عدة أمراض رافقت الأداء العام على الأقل خلال الثلاثين سنة الماضية. وهي أمراض بعضها له امتداده التاريخي والبعض الآخر المنشأ الاجتماعي، فيما الثالث اتخذ المنطلق الثقافي.
الاستعلاء العرقي
تستعلي العرقية الكهنوتية على غيرها، بحجة أنها متميزة "جينيًا" على كل من عداها من الأجناس الأخرى، حاشدة بذلك مزعوم أدلتها وبراهينها الدينية والعقلية التي تؤكد صحة فرضيتها، أو ادعاءها، باحثة عما يترتب على هذا التميز العرقي من امتيازات مادية حصرية، لا يشاركها فيها أحد، فهو هدية السماء لها، ومن ثم فمن يعترض عليها فهو يعترض على السماء..!
هذا مرض، وداء عضال نشأ وترعرع وانتشر، ولم نعمل على الحد من انتشاره فدفعنا، وندفع الثمن أضعافا مضاعفة إلى اليوم، وهو بطبيعة الحال أخطر أنواع الاستعلاء، كونه تكرس عقيدة دينية، تدعمت بالسلاح الذي يحمي هذا الامتياز الموهوم..!
الاستعلاء الثقافي
كالاستعلاء العرقي أيضًا الاستعلاء الثقافي الذي يستبطنه بعض مثقفي محافظة ما، ولسان حالهم "إنما أوتيته على علم عندي". فهم وحدهم دون غيرهم المثقفون ومن يحق لهم الكلام عن الثقافة، فيما غيرهم أقل شأنا منهم مهما كان. وهو استعلاء يصحب معه أسوأ ما تستبطنه النفس الإنسانية من طيش وغرور وتفاخر، كعادة أي استعلاء، إلا أنه من المثقف أشد إيلاما، والحقيقة أن احتكار الثقافة في جغرافية معينة من قبل البعض لا يختلف عن احتكار عرق معين للعلم أو أن جدهم الأول بوابة العلم، ولا علم إلا علم آل البيت، ومن عداهم "علماء عامة" لا يعتدُّ بعلمهم مهما بلغ..!
سلوكيات مُعاشة وملموسة قد لا يدركها من يمارسُها، لكن يحس بآلامها من تُمارس عليه؛ ذلك أن بعض سلوكيات هذا الاستعلاء من تصرفات "العقل الباطن" أكثر من العقل الواعي، مهما حاول هذا المستعلي التستر على شعوره هذا.
ليس ذلك فحسب؛ بل إن هذا الاستعلاء يفرزُ استعلاءات انشطارية أخرى داخل هذه الجغرافيا، أو ذلك المكون نفسه إلى حد أن بعضهم لا يستطيع تقبل فكرة أن يكون شخص ما متدينًا ومثقفا في نفس الوقت؛ إذ يعتقد بعضُ هؤلاء أن التدين والثقافة لا يلتقيان..!
وهكذا تتأتى بعض الأمراض من بعضها البعض، فينتجُ عن المرضِ مرضُ آخر في متوالية جدلية لا حد لها. وقد تصيبُ هذه العاهة مثقفين آخرين من خارج هذه الجغرافيا، فهو بالنهاية وباء ينتشر بالعدوى، ولا توقفه حدود.
الاستعلاء الديني
الحالُ من بعضه أيضا لدى بعض المتدينين، وهو داءٌ قديمٌ أشار إليه ابنُ سينا في مقولة مأثورة عنه: "بُلينا بقومٍ يظنون أن الله لم يهدِ سواهم". يأتي هذا رغم أن الدين نفسه ينهى عن هذا السلوك؛ بل يمقته ويزدريه، ومع هذا يمارسُه بعض المتدينين ليس على غيرهم من غير المتدينين؛ بل حتى على المتدينين بعضهم البعض، فتجد من يُقاطع أخاه أو يبغضه بحجة أن في عقيدته "دخَن"..! أو أنه غير ملتزم. والالتزام في نظر هذا انتهاجُ اعتقاد معين أو التزام سلوك ما محدد في ذهنه هو. ناسيًا أو متناسيًا نسبية الأفكار والفهومات والمعتقدات. كما تجد من يرى في نفسه أنه الأفضل دينيا، لا لشيء إلا لأنه ذلك "الملتزم" كما يرى نفسه، فيما غيره أقل تدينا منه..!
وتقتضي الإشارة هنا إلى وجوب الإسهام في علاج أي ظاهرة سلبية أو قضية ما غير إيجابية، لا الاكتفاء بالتعيير أو الاستعلاء فقط.
الاستعلاء المناطقي
كالاستعلاءات السابقة أيضًا الاستعلاء المناطقي الذي يمارسُه البعض تجاه غيرهم، لأن هذه المنطقة أو الجغرافيا متميزة في وجهة نظره، ولكونه ابنَ هذه المنطقة التي ينتمي لها فهو يتنمر على غيره ويستعلي عليه، وكأن الجغرافيا محددٌ من محددات التمايز الإنساني، مع أن الإنسان لا يملك حق تحديد المكان الذي يولد فيه أساسا، ذلك من اختيارات القدر وحده، ومع هذا يعتقد البعض أنه متميزٌ بالمكان أو الجغرافيا التي ينتمي إليها، كما يعتقد غيره بالتميز عن الآخرين لأنه من عرقية محددة أو ينتمي لدين بعينه، علما أنه من حق أي شخص الاعتداد بثقافته أو دينه؛ لكن ذلك لا يعني الاستعلاء عن الآخرين، مع مراعاة أن هذا الاعتداد يستبطن نوعًا من التبخيس للطرف الآخر إذا ما استغورناه من ناحية نفسية..!
هذه أدواء وأمراض لها بيئاتها الخاصة، ولها إفرازاتها ومنطلقاتها التي خقلتها وتسيرُ عليها، وتنشأ عادة في مرحلة ما قبل الدولة، وما قبل المدنيات، وما قبل الترقي الحضاري، وكلما تغولت المجتمعات في التخلف أكثر برزت هذه الصيغ بصورة أكثر، وتشبثت كل جماعة بما تراه ميزة حصرية لها، ولا يداوي عللها إلا الدولة الجامعة، الضامنة للجميع التي تتلاشى فيها كل العصبويات والكانتونات الصغيرة التي تتوهم الاحتماء بهوياتها الصغيرة. والعجيب أن الجميع يعيش البؤس ويقتات الحرمان والتخلف والجهل ومع هذا لا يفتأ أن يستعلي على غيره، باحثا عن مبررات تشبع أوهامه البائسة لا للارتقاء بنفسه؛ بل لمعايرة غيره بالداء الذي يعيشه هو..!