08:57 2025/07/17
09:56 2025/07/08
12:05 2025/05/23
سـبتمبر المجيـد.. وثنائيةُ الاستِدعَاء والاستِعدَاء
قبل 3 ساعة و 17 دقيقة
تقدّسُ الشعوب، في تاريخ مسيرتها، أزمنةً معينةً كان لها الفضل في تغيير مجرى حياتها والانتقال بها لمصافّ العلوِّ والازدهار، وبالذات تلك المتعلقة بجوانبها السياسية والاجتماعية والمسطورة في دفتي تاريخها بدماء التضحيات الزكية المبذولة رخيصةً في سبيل إعلاء مصالحِ الوطن ورفعةِ الشعب، ومنها: يوم السَّادسِ والعشرين من سبتمبر المجيد، يوم الثورة والتحرر وانقشاع نظام التسلط الفردي واجتثاث أفكاره المتربع عليها، تتويجاً ببزوغ ميلاد النظام الجمهوري في اليمن.
في الحقيقة لم تكن ثورةُ السادس والعشرين من سبتمبر ١٩٦٢ مجرد انتفاضةٍ سياسية أنهت حكم الأسرة الواحدة ليحُلَّ آخرون مكانها، بل كانت في كنهها ولادةً جديدةً للوعي الوطني اليمني. فهي لم تُسقط الإمامةَ فحسب، وإنما دشّنت مشروعَ الجمهوريةِ باعتبارهِ تعاقدًا جمعيًا قائماً على الحرية والمواطنة المتساوية والعدالة ونابذًا ما يجافي تلك القيم المجيدة. ولذا فمنذ ذلك الحين، غدا سبتمبر أكثر من مجرد حدثٍ عابر، إذ تحول إلى رمز تأسيسي للهوية الوطنية الحديثة، وساحةِ صراعٍ ممتدة بين مَن يستلهم قيمَه ويستدعي أهدافه الستة كغاية ينشد تحقيقها في واقع اليمنيين، ومَن يناصبه العَداء لأنه يرى فيه نقيضًا لسلطتهِ ومشروعهِ الرجعي.
واليوم، بعد مرور ثلاثةٍ وستين عامًا، تتجلى أمامنا ثنائيةٌ واضحة: استدعاءٌ شعبي متجدد لقيم الثورة السبتمبرية المجيدة يقابله استعداءٌ سلطوي ممنهج من قوى أمرٍ واقع تستلهم الماضي الإمامي وتخشى أن يبدِّدَ سبتمبر مبرراتِ وجودها. وهذه الثنائية ليست مجرد خلافٍ حول ذكرى تاريخية، بل انعكاسٌ لمعركةٍ أعمق تدور حول شرعية الحكم والهوية السياسية لليمن.
فالاستدعاء الشعبي، سواء عبر الاحتفالات العامة أو الممارسات الرمزية الفردية، هو فعل مقاومة بامتياز، وتعبير عن تمسك اليمنيين بجمهوريتهم، حتى في لحظات تعثر مؤسساتها أو انحراف ممارساتها. إنَّه إعلانٌ بأن ثورة السادس والعشرين ليست مجرد ذكرى عاطفية، بل مشروع مستمر يُستدعى كلما تعرّضت الفكرة الجمهورية لمحاولات تقويض أو مصادرة.
في المقابل، لا يقتصر الاستعداء على رفضٍ شكلي لطقوس الاحتفال، بل هو إنكارٌ جوهري لرمزية سبتمبر باعتباره اللحظة الفاصلة التي أنهت الإمامة وأطلقت مشروع الجمهورية. ويتجسد هذا الاستعداء في منع الاحتفالات، وقمع كل من يشارك فيها أو يحيي ذكراها، وفرض قيودٍ على أي مظهر رمزي مرتبط بها. وهو يعكس وعيًا راسخًا لدى قوى الأمر الواقع بأن ثورة السادس والعشرين تمثل الجدار الذي تتحطم عنده كل محاولات استعادة السلطة السلالية. لذا يُنظر إلى أي فعل احتفاء بها كتهديد مباشر لمشروعها، فيواجه بالقمع والتقييد الممنهج لكسر إرادة الشعب وطمس ذاكرته الجمعية.
وفي السنوات الأخيرة، شاهدنا في المناطق الخاضعة لسيطرة أنصار الله حملات قمع ضد أي مظهر من مظاهر الاحتفاء بثورة ٢٦ سبتمبر، من رفع علم الجمهورية إلى بث الأغاني الوطنية أو حتى إشعال الألعاب النارية. هذه الوقائع لم تكشف فقط عن حجم الاستعداء له والرهبة منه، بل أكدت أن سبتمبر ما يزال حيًّا في ضمير الناس، وأن محاولات طمسه تصطدم بإصرار شعبي متجدد على استدعائه.
والمفارقة أن الاستعداء في كل مرة لا يُميت سبتمبر بل يعزز الاستدعاء. فحين يُمنع الناس من الاجتماع العلني، يحوّلون المناسبة إلى فعل شخصي في بيوتهم وفضاءاتهم ووسائل تواصلهم، فيتضاعف معناها ويتحول الاحتفاء من طقس رمزي إلى فعل مقاومة يومي. وهذا يكشف قاعدةً راسخة في علم الاجتماع السياسي، مفادها أنَّ: الهوية حين تُحاصر تولد من جديد بقوة أكبر، وحين يحاولُ الاستبداد قمعها، تعيد الشعوبُ إنتاجها في أشكالٍ أكثرَ صلابة.
إن الصراع حول سبتمبر هو في جوهره صراع حول طبيعة الدولة: أهي دولة جمهورية حديثة تستمد مشروعيتها من الشعب، أم سلطة تحكميّة مغلقة تستمد شرعيتها من الماضي؟ ولهذا فإن ثنائية الاستدعاء والاستعداء تتجاوز حدود المناسبات لتصل إلى جوهر المعادلة السياسية اليمنية. إنها ليست سجالًا حول التاريخ، بل جدلًا حول المستقبل: هل يمضي اليمن في طريق الجمهورية، أم يرتد إلى حضن الإمامة؟
لقد حاولت قوى عديدة –داخلية وخارجية– منذ ستينيات القرن الماضي الالتفاف على الثورة، لكن سبتمبر ظل عصيًا على الموت، لأنه لم يُختزل في مؤسسات الدولة وحدها، بل استقر في الوعي الجمعي لليمنيين. واليوم، وأمام محاولة بعث الإمامة في أثواب جديدة، ينهض سبتمبر كقوةٍ مقاومةٍ متجددة تؤكد أن الجمهورية ليست مجرد خيار بين بدائل، بل قدر تاريخي محتوم لا رجعة عنه.
ختامًا نؤكد أن ثورة السادس والعشرين من سبتمبر ليست مجرد ذكرى سنوية عابرة، بل شعلة متجددة في التاريخ، سينبثق منها مارد الشعب الذي لا يُقهر ليحمي جمهوريته عند المساس بها. ومهما طال زمن الاستعداء وتكررت محاولات الطمس، ستبقى ذكرى سبتمبر المجيد حيّة في الضمائر، نابضة في الأجيال، وستظل إلهاماتها معيارًا فاصلًا بين شعبٍ اختار الحرية والانعتاق من قيود السلالة، وجماعةٍ منبوذة لا تزال تَحِنّ إلى الاستعباد وتصرّ على تكريسه في واقع يمنيٍّ يرفضُها ويلفِظ ترَّهاتِ ما تدعو إليه.
..