مؤتمر الأمن البحري في الرياض: أبعاد الصراع الإقليمي واستعادة الدور اليمني
- الساحل الغربي، أ.د. عبدالوهاب العوج*
- 06:58 2025/09/19

شكّل المؤتمر الدولي للأمن البحري في الرياض محطة محورية في السياق المعقد للحرب اليمنية، حيث اجتمع أكثر من خمس وثلاثين دولة في مبادرة تقودها السعودية وبريطانيا بالتعاون مع الحكومة اليمنية. جاء المؤتمر في توقيت بالغ الحساسية، متزامناً مع التصعيد الخطير للعمليات العدائية التي تنفذها المليشيات الحوثية المدعومة إيرانياً ضد السفن التجارية في البحر الأحمر وخليج عدن وباب المندب، وهي ممرات مائية تمثل شرياناً رئيسياً للتجارة العالمية ونقل الطاقة بين آسيا وأوروبا، ولم يكن المؤتمر مجرد فعالية بروتوكولية، بل جاء كاستجابة ضرورية لتصاعد المخاطر التي تهدد الأمن البحري الدولي.
الهجمات الحوثية خلال الأشهر الماضية مثلت تطوراً نوعياً في الصراع، حيث لم تقتصر على تهديد ناقلات النفط أو سفن الشحن الكبرى، بل شملت استهداف وإغراق سفن تجارية مثل "ماجيك سيز" و"إيترنيتي سي"، إضافة إلى محاولات متكررة لاستهداف سفن تحمل شحنات غذائية وطبية موجهة لأسواق إفريقية وعربية، ما كشف عن استخدام الممرات الدولية كأداة ابتزاز سياسي واستراتيجي على حساب الأمن الإنساني (IMB 2024).
هذه الممارسات لم تؤد فقط إلى رفع تكاليف التأمين والشحن البحري، بل ساهمت أيضاً في إعادة رسم خارطة المخاطر الاستثمارية المرتبطة بالمنطقة، بحيث أصبح البحر الأحمر وباب المندب ضمن أخطر الممرات الملاحية على مستوى العالم.
وفي هذا السياق، برزت جهود قوات المقاومة الوطنية في الساحل الغربي بقيادة الفريق الركن طارق صالح، نائب رئيس مجلس القيادة الرئاسي، والتي تمكنت من ضبط شحنات ضخمة من الأسلحة والمعدات العسكرية الموجهة إلى الحوثيين، أهمها شحنة 750 طناً من المعدات العسكرية المتطورة، إلى جانب كميات من الطائرات المسيّرة والصواريخ الدقيقة، كما كشفت القوات عن القبض على شحنات كبيرة من المخدرات وحبوب الكبتاغون، التي أصبحت أحد أبرز مصادر التمويل لشبكات الحوثيين بدعم مباشر من إيران (تقارير إعلامية غربية وعربية 2023–2025 ). هذا النمط من التداخل بين تهريب السلاح والمخدرات يعكس استراتيجية إيرانية أوسع، مشابهة لتجربة حزب الله في لبنان الذي استخدم اقتصاد الظل لتمويل أنشطته العسكرية، ويجعل من اليمن ساحة اختبار لأسلوب جديد من الحروب الهجينة.
من الناحية العملية، تزامنت هذه التهديدات مع خطوات ملموسة أعلنتها السعودية والاتحاد الأوروبي لدعم خفر السواحل اليمنية. فقد التزمت الرياض بتقديم أربعة ملايين دولار، بينما خصص الاتحاد الأوروبي مليوني يورو لتطوير البنية التحتية وتزويد القوات اليمنية بمعدات حديثة للرقابة والتدريب. هذه التعهدات رافقها وعود بريطانية وأمريكية لتوفير الدعم الفني واللوجستي المتخصص، وهي خطوات تعكس إدراكاً متزايداً بأن تعزيز قدرات اليمن البحرية يمثل شرطاً لحماية الممرات الدولية.
غير أن هذه الالتزامات المالية تواجه تحدياً جوهرياً يتمثل في ضرورة وجود خطة محكمة ومراقبة دقيقة لآليات التنفيذ، بحيث تضمن توجيه التمويل نحو بناء قدرات مؤسسية فعلية دون أن يتسرب عبر قنوات الفساد أو الانقسامات الداخلية. التجربة اليمنية السابقة مع المساعدات الدولية تؤكد أن غياب الشفافية قد يحول حتى أكبر المنح إلى موارد مهدورة، بينما وجود آلية إشراف دولية مشتركة قد يجعل هذه المساعدات نقطة تحول في إعادة بناء مؤسسة وطنية جامعة مثل خفر السواحل.
المؤتمر لم يكن معزولاً عن السياق الدولي، بل جاء متوافقاً مع استراتيجيات أوسع تقودها واشنطن وبروكسل، فقد دُشنت عمليات مثل "حارس الازدهار" الأمريكية و"أسبيديس" الأوروبية (عملية الدرع باللغة اليونانية) كإطارين منفصلين لمواجهة تهديدات الحوثيين وضمان تدفق التجارة العالمية، وهذه المبادرات، رغم أنها تعكس تقاطع المصالح الأمنية، تحمل في طياتها أيضاً تنافساً غربياً–أوروبياً على النفوذ في البحر الأحمر، حيث تسعى الولايات المتحدة إلى ترسيخ قيادتها للتحالفات البحرية عبر الأسطول الخامس، فيما يحاول الاتحاد الأوروبي تعزيز استقلاليته الاستراتيجية في إطار رؤية أمنية خاصة (CSIS 2024).
وعند النظر إلى التجارب الدولية، نجد أن التجربة الصومالية تقدم مثالاً لنجاح الشراكة بين الجهد العسكري والدعم التنموي، حيث ساهمت برامج الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة في خفض مستويات القرصنة بشكل كبير عبر بناء قدرات محلية متدرجة (UNODC 2023–2025)، بالمقابل، يُظهر النموذج الليبي فشلاً واضحاً، حيث أدى غياب الدولة المركزية إلى ضياع استثمارات ضخمة، وانتهى الأمر بتعزيز الانقسامات السياسية والاقتصادية، أما السيناريو اللبناني، الذي سيطر فيه حزب الله على مفاصل الدولة وأجهزتها الأمنية، فيبدو الأقرب إلى الحالة اليمنية إذا استمرت المليشيات الحوثية في التحكم بالقرار السيادي والأمني، ما يجعل من باب المندب نسخة مكررة من الجنوب اللبناني.
جيوسياسياً، يشكل البحر الأحمر ساحة تنافس عالمي متعدد الأبعاد، حيث إن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى للإبقاء على خطوط التجارة مفتوحة وضمان تدفق الطاقة، فيما توسع الصين حضورها عبر مبادرة "الحزام والطريق"، بما في ذلك استثمارات في موانئ جيبوتي والسودان. روسيا من جهتها تعمل على تعزيز وجودها العسكري عبر تفاهمات مع السودان وإريتريا لإقامة قواعد لوجستية على البحر الأحمر، بينما تتحرك تركيا عبر اتفاقيات أمنية واقتصادية في الصومال والقرن الإفريقي. هذا التداخل يعيد إنتاج مشهد تنافسي يشبه الحرب الباردة ولكن في صيغة جديدة، حيث لا تقتصر المعركة على النفوذ العسكري بل تشمل الاقتصاد، البنية التحتية، وحتى النفوذ الأيديولوجي.
البعد التاريخي لهذا الصراع يعزز من إدراك خطورة اللحظة الراهنة، فمنذ حرب أكتوبر 1973 حين أُغلق مضيق باب المندب أمام الملاحة الإسرائيلية، ارتبط المضيق بالسياسات الكبرى في المنطقة، وتكرر الأمر في الحرب العراقية–الإيرانية خلال ثمانينيات القرن الماضي مع حرب الناقلات في الخليج العربي، وهو ما يجعل من البحر الأحمر اليوم امتداداً لساحة الصراع الإقليمي الذي توظف فيه إيران الحوثيين كأداة تهديد للأمن الدولي، في محاولة لخلق توازن ردعي مع الغرب على حساب استقرار المنطقة.
ختاماً، مثل مؤتمر الرياض إقراراً دولياً بأن استقرار اليمن البحري يعادل استقرار النظام التجاري العالمي برمته، غير أن نجاح هذه المبادرة يتوقف على قدرة الحكومة اليمنية على تجاوز معضلاتها البنيوية، وعلى إرادة المجتمع الدولي في دعمها بعيداً عن الحسابات الضيقة أو الانقسامات الداخلية. فإذا ما تمكن اليمن من بناء قوة بحرية مهنية وشفافة، فإنه سيخرج من دائرة الاعتماد السلبي على المساعدات، ليتحول إلى شريك استراتيجي في معركة تأمين الممرات الدولية، وهو ما سيشكل بدوره تحولاً نوعياً في مكانته الإقليمية والدولية.
*أكاديمي ومحلل سياسي يمني