الدعم السعودي بين رسائل السياسة وتحديات الاقتصاد اليمني

  • أ.د. عبدالوهاب العوج*
  • 04:59 2025/09/22

أعلن البنك المركزي اليمني في عدن، في اجتماعه الأخير برئاسة المحافظ أحمد غالب المعبقي، تقديره للدعم المالي السعودي الذي جاء في ظرف استثنائي يعيشه اليمن على المستويين الاقتصادي والسياسي. المجلس شدد على أن هذا الدعم يمثل رافعة أساسية لتأمين المرتبات والخدمات الأساسية، وتوفير متنفس مؤقت أمام الحكومة اليمنية لمواصلة الإصلاحات الهيكلية لمعالجة الاختلالات وتحقيق الاستدامة المالية، كما ناقش الاستعدادات للجولة الأولى من المشاورات مع صندوق النقد الدولي في عمّان، وهي جولة يتوقف عليها مستقبل السياسات المالية والاقتصادية في المدى المنظور.
 
اللافت في الدعم الجديد المعلن عنه من قبل الرياض بقيمة 368 مليون دولار، أنه لم يُقدَّم كوديعة مباشرة في البنك المركزي كما كان معتاداً في المرات السابقة، بل جرى تمريره عبر "البرنامج السعودي لتنمية وإعمار اليمن" (SPDRY)؛ فهذه الآلية لم تأتِ اعتباطاً، وإنما تحمل رسائل سياسية واقتصادية واضحة، وفق ما ذهب إليه الخبير الاقتصادي وحيد الفودعي، الذي اعتبر أن الرياض تسعى إلى ضبط مسارات الصرف وتفادي أي تسرب أو عبث في الأموال، مع تخصيصها لبنود محددة مثل دعم الموازنة العامة، توفير المشتقات النفطية، ودعم مستشفى الأمير محمد بن سلمان في عدن عبر الدعم السعودي بمنحة 368 مليون لليمن عبر SPDRY.
 
هذه الخطوة تعكس في العمق توجهاً سعودياً لممارسة ما يمكن تسميته بـ"الوصاية المالية الإيجابية"، إذ لم يعد الدعم السعودي مفتوحاً بلا شروط، بل أصبح مرتبطاً بالإصلاحات والحوكمة الرشيدة. الرسالة هنا واضحة أن المملكة لا تزال ترى في الشرعية اليمنية شريكها الأساسي، لكنها لم تعد على استعداد لتكرار تجارب سابقة أهدرت فيها المنح والودائع دون نتائج ملموسة.
 
على المستوى الاقتصادي المباشر، يمكن القول إن أثر هذه المنحة سيكون آنياً ونفسياً في البداية، عبر تهدئة الأسواق والحد من المضاربات في العملة، غير أن الأثر الحقيقي سيظهر فقط إذا تمكنت الحكومة من استغلال الأموال في دعم الاستيراد وتوفير الوقود. وهنا تكمن المعضلة فالمنحة ليست حلاً جذرياً بل "رافعة استقرار مؤقتة"، سرعان ما ستفقد أثرها إذا لم تقترن بإصلاحات هيكلية وإجراءات صارمة تعيد الثقة بالقطاع المصرفي وتحد من الاختلالات في المالية العامة.
 
البعد السياسي للدعم لا يقل أهمية عن بعده الاقتصادي، فالسعودية تريد أن تؤكد استمرار التزامها بدعم الشرعية، لكنها في الوقت نفسه ترسل إشارة تحذير بأن أي دعم مستقبلي سيكون مرهوناً بمدى قدرة الشرعية على ضبط مواردها وتنفيذ إصلاحات جادة. وهنا، تصبح "الكرة في ملعب الشرعية"، التي يمكن أن تحوّل المنحة إلى محطة استقرار، أو أن تضيعها كما حدث مع كثير من الفرص السابقة.
 
أما على صعيد الداخل اليمني، فإن استقرار سوق الصرف وتحسن توفر السلع وتوقع انخفاض أسعارها مع هذا التحسن في سعر العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية سيخففان الضغط عن الشارع ويمنعان الحوثيين من استثمار التدهور الاقتصادي كسلاح سياسي وإعلامي ضد الحكومة، ولطالما استخدم الحوثيون الأزمات المعيشية في مناطق سيطرة الحكومة لإبراز أنفسهم كبديل قادر على إدارة الاقتصاد بفاعلية أكبر، رغم أن واقع الحال يكشف عكس ذلك، ومن ثم فإن نجاح الحكومة في استثمار هذه المنحة لتعزيز الاستقرار سيحرم الحوثيين من ورقة ضغط كانت فاعلة في السنوات الماضية.
 
إقليمياً، يُلاحظ أن السياسة السعودية الجديدة تجاه اليمن ليست استثناء، بل تنسجم مع توجه عام في تعامل الرياض مع أزمات مشابهة في المنطقة. ففي لبنان، امتنعت المملكة عن تقديم دعم مباشر للعملة أو الحكومة في ظل هيمنة حزب الله وغياب الإصلاحات الاقتصادية الحقيقية، مفضلة ربط أي دعم ببرامج إصلاحية واضحة وتوافق سياسي داخلي (مصدر: تقارير رويترز وبشأن لبنان، والتقارير عن الإفلاس المالي وتدهور البنك المركزي اللبناني)، وفي السودان، ورغم تقديم مساعدات عاجلة بعد سقوط نظام البشير عام 2019، إلا أن الرياض سرعان ما أوقفت تدفق الدعم مع تعثر العملية الانتقالية واستمرار الأزمات السياسية، مؤكدة أنها لن تكرر تجارب التمويل غير المشروط.
 
هذا النمط يعكس تحولاً في الاستراتيجية السعودية من "الدعم بلا مقابل" إلى "الدعم المشروط بالإصلاح"، وهي رسالة واضحة مفادها أن زمن الاعتماد على المساعدات المباشرة قد ولى، وأن السعودية اليوم تبحث عن ضمانات السياسية والاقتصادية تضمن أن أموالها لن تذهب هباء.
 
إن قراءة المنحة السعودية الجديدة لا يمكن أن تقتصر على بعدها المالي المباشر، فهي تمثل جزءاً من سياسة الرياض في إدارة الملف اليمني بما يجمع بين الأدوات الاقتصادية والضغوط السياسية، فالسعودية تدرك أن انهيار العملة أو تفاقم الأزمة المعيشية سيؤدي إلى انفجار اجتماعي قد تستفيد منه المليشيات الحوثية لتعزيز خطابها وتوسيع نفوذها، ولهذا يأتي الدعم كخطوة استباقية لاحتواء التداعيات ومنع الشرعية من فقدان ما تبقى من قواعدها الاجتماعية وشعبيتها المتآكلة.
 
في المقابل، فإن تحويل آلية الدعم من الإيداع المباشر في البنك المركزي إلى الصرف عبر البرنامج السعودي لتنمية وإعمار اليمن يعكس تراجع الثقة بالمنظومة المالية اليمنية، ومحاولة فرض رقابة مباشرة على مسارات التمويل، فهذه الآلية تحمل رسائل مزدوجة، فهي من جهة تعد هذه المنحة استمراراً في دعم الشرعية وعدم التخلي عنها، ومن جهة أخرى إشارة واضحة بأن أي دعم مستقبلي سيكون مشروطاً بالإصلاحات ومحاربة الفساد.
 
كما أن هذه الخطوة تأتي متزامنة مع استعداد البنك المركزي للدخول في مشاورات مع صندوق النقد الدولي، وهو ما يمنح الحكومة اليمنية ورقة إضافية للتفاوض، إذ يمكنها أن تُظهر للمؤسسة الدولية أن هناك شريكاً إقليمياً داعماً، لكنه في الوقت نفسه يشترط الإصلاح والحوكمة.
 
أما على الصعيد الداخلي، فإن الدعم السعودي قد يمنح الشرعية فرصة مؤقتة لإعادة ترتيب أوضاعها وتخفيف الضغط الشعبي، لكنه لن يوقف الانهيار ما لم يترافق مع خطوات عملية لإعادة ضبط مؤسسات الدولة وتعزيز الإيرادات العامة، خصوصاً من المنافذ والموانئ التي لا تزال تحت سيطرة أطراف متنافرة ومن خلال إعادة تصدير النفط والغاز اليمني وإعادة تشغيل مصفاة عدن وحكر استيراد وبيع المشتقات النفطية عبر الشركة اليمنية للنفط وكذلك ضبط توريد جميع المصالح وكل الإيرادات إلى البنك المركزي.
 
من جهة أخرى، فإن الحوثيين سيراقبون هذه التطورات عن كثب، وسيعملون على استغلال أي إخفاق أو تعثر في تنفيذ الدعم لتأكيد خطابهم بأن الشرعية رهينة للقرار الخارجي وغير قادرة على إدارة مؤسساتها، كما قد يدفعهم ذلك إلى تسريع تحركاتهم الاقتصادية في المناطق الخاضعة لسيطرتهم، عبر فرض مزيد من الجبايات وتعزيز اقتصاد الحرب.
 
إن التجربة اليمنية مع الدعم السعودي تشبه في بعض أبعادها ما عاشته دول أخرى. ففي لبنان، على سبيل المثال، ضخّت دول الخليج مساعدات متكررة منذ التسعينيات لدعم الاستقرار النقدي وتمويل الخزينة، لكنها تبخرت بفعل غياب الإصلاح الجاد والفساد المستشري، لينتهي الأمر بانهيار شامل للعملة والقطاع المصرفي بعد 2019. وهو درس يحذر من أن المساعدات، مهما بلغت، لا يمكن أن تحل محل بناء مؤسسات فاعلة وقادرة على إدارة الاقتصاد.
 
وفي السودان، بعد سقوط نظام البشير، قدمت مؤسسات دولية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي حزم دعم مشروطة بالإصلاحات، غير أن ضعف التوافق السياسي والصراعات بين المكونات المدنية والعسكرية جعلت الإصلاحات تتعثر، فانقطع الدعم الخارجي، ودخلت البلاد في أزمة اقتصادية عميقة. هذه التجربة تعكس أن الدعم الخارجي وحده لا يكفي ما لم يقترن بقدرة الدولة على الالتزام بالشروط وتحقيق الحد الأدنى من الاستقرار السياسي.
 
حتى في دول بعيدة عن المنطقة مثل كولومبيا، حيث تدفقت المساعدات الأميركية لمواجهة تجارة المخدرات وحركات التمرد، فإن تلك المساعدات لم تحقق أهدافها بالكامل إلا حين ترافق الدعم المالي والعسكري مع إصلاحات أمنية وسياسية داخلية عززت قدرة الدولة على الصمود.
 
من خلال هذه المقارنات يتضح أن الدعم السعودي لليمن قد يشكل فرصة لالتقاط الأنفاس، لكنه لن يكون ضمانة للاستقرار الدائم ما لم تستثمر الشرعية هذه اللحظة في بناء مؤسسات قوية، ومحاربة الفساد، وتعزيز الشفافية، فالتجارب الدولية تشير إلى أن أي تهاون في الإصلاح سيجعل الدعم مجرد مسكن مؤقت سرعان ما يتبخر أثره.
 
إن المنحة السعودية، وإن كانت أقل من حجم التوقعات والأزمات، إلا أنها تحمل دلالات سياسية واستراتيجية عميقة، فهي رسالة بأن الرياض لا تزال ترى في الشرعية حليفها الأساسي، لكنها تضعها أمام اختبار صعب: إما أن تثبت قدرتها على الإصلاح والالتزام بالحوكمة، أو تخسر آخر أوراق الدعم المتاحة لها في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
 
*أ.د.عبدالوهاب العوج
أكاديمي ومحلل سياسي يمني

ذات صلة