لماذا تتذيّل الجامعات اليمنية التصنيف العالمي، وما دور المليشيات الحوثية المخرب؟

  • الساحل الغربي، أ.د. عبدالوهاب العوج
  • 11:20 2025/08/17

من الناحية المنهجية، لا يدخل أي نظام جامعي منافسة التصنيفات العالمية إلا بتوافر حزمة شروط مترابطة تتصل بالإنتاج البحثي المنشور في قواعد البيانات المحكمة، ونسب الاستشهاد العلمي، والنطاق الدولي للشراكات، ونسبة أعضاء هيئة التدريس إلى الطلبة، والبنى التحتية والخدمات الجامعية، وفي الحالة اليمنية انهارت هذه المتطلبات الأساسية تباعًا مع اشتداد الحرب وتصدع الدولة وانكماش الإنفاق العام على الجامعات، الأمر الذي انعكس غيابًا أو حضورًا هامشيًا لجامعات اليمن في جداول التصنيف الدولية، حتى إن صفحة اليمن في تصنيف التايمز تشير إلى وجود تمثيل محدود وملتبس يرتبط بفئات فرعية وليس تقدّمًا بحثيًا مستقراً، وهو ما يعبّر عن فجوة بنيوية لا عن مشكلة ترويج أو دعاية، وهذه نتيجة منطقية لواقع مواردي ومؤسسي مضطرب. (Times Higher Education, صفحة اليمن) 
 
يمثل شحّ الموارد نقطة الانكسار الأولى، فميزانيات الجامعات لا تكاد تكفي التشغيل الروتيني في بلد تعطّل فيه جهاز المعلومات التعليمي نفسه منذ 2015/2016، ما يعني أن الدولة لا تملك حتى بيانات حديثة متسقة لاتخاذ قرار أو تخطيط إصلاح، فضلًا عن تمويل بحث علمي تنافسي، وقد وثقت اليونسكو اضطراب منظومة إدارة المعلومات التعليمية وصعوبة إنتاج بيانات وطنية شاملة حتى السنوات الأخيرة، الأمر الذي يكشف عمق الفراغ المؤسسي الذي تعيشه قطاعات التعليم كافة بما فيها التعليم العالي. (اليونسكو 2023) 
 
أما الحرب فحوّلت الجامعات إلى مؤسسات تعمل تحت ضغط الإفقار والتهجير وتآكل الأجور، مع موجة نزيف للكفاءات الأكاديمية إلى الخارج، وبيئة عامة يختلط فيها الأمني بالسياسي داخل الحرم، وقد وثّقت تقارير دولية وحقوقية اتساع نطاق الانتهاكات ضد قطاع التعليم برمته، من قصف منشآت تعليمية وتوظيفها عسكريًا إلى التهديد والاعتقال للمعلمين والأكاديميين، بما في ذلك رصد عشرات الهجمات على التعليم العالي خلال دورات توثيقية حديثة. (Mwatana 2020–2024، GCPEA 2022 و2024) 
 
في قلب هذا الانهيار تقف ممارسات الميليشيا الحوثية التي أسّست لنمط من التسييس القسري للمؤسسات الجامعية، بدءًا من تغيير البنى القيادية وتعيين موالين في إدارة الجامعات والكليات، مرورًا بالتدخل في المحتوى التعليمي ومقررات الثقافة الإسلامية والهوية، وانتهاءً باستخدام أدوات القمع داخل الحرم الجامعي ضد أكاديميين وطلبة على حد سواء، وقد وثّقت الشبكات المتخصصة بحريات الأكاديميين وحماية الجامعات أمثلة متكررة، من توقيف أساتذة جامعة صنعاء منذ 2018 أثناء محاولتهم استلام مرتباتهم، إلى اقتحام قاعات محاضرات والاعتداء على أساتذة، وصولًا إلى حوادث اعتداء من قيادات معينة حوثيًا داخل جامعات أهلية وعامة، وهذا كله ينسف الاستقرار الأكاديمي ويحوّل الجامعة إلى فضاء للولاء السياسي بدل التنافس العلمي. (Scholars at Risk 2018 و2023، وزارة الخارجية الأمريكية 2020، Al-Fanar Media 2020) 
 
يتجاوز التدخل حدود الإدارة اليومية إلى مصادرة استقلال المناهج وتكييفها أيديولوجيًا، فمعالم ما يسمى بهندسة “الهوية” تسللت إلى المقررات والأنشطة الطلابية وخطاب المنابر الجامعية، وقد رصدت مراكز بحث مستقلة ودوريات سياسات تعليمية تغييرات أحادية تروّج للخطاب الفئوي وتمجّد الحلفاء الخارجيين للميليشيا، بما يخلّ بشرط الحياد العلمي ويؤطر الجامعة كأداة تعبئة لا كبيت للعلم، وقد ظهرت هذه الاتجاهات منذ السنوات الأولى للانقلاب وتواصلت بصيغ متعددة خلال العقد الأخير. (MEI 2018، Yemen Policy Center 2023) 
 
الأثر المباشر لهذه الممارسات ظهر في أمن الحرم الجامعي وحريات الأساتذة والطلاب، إذ وثّقت تقارير حقوقية دولية خلال 2024–2025 موجات اعتقال وإخفاء قسري طاولت موظفين أمميين ونشطاء وأكاديميين في مناطق سيطرة الحوثيين، وبما أن مجتمع الجامعة حساس لأي صدمة في حرية التعبير والتنظيم، فإن مناخ الخوف يقوّض التدريس الحرّ والبحث الميداني ويجفف مبادرات الشراكة الدولية، لأن الجامعات العالمية لا تتحالف ولا تبادل باحثين مع مؤسسات لا تحترم الحد الأدنى من الأمان الأكاديمي. (Human Rights Watch 2024–2025، Associated Press 2024) 
 
من زاوية التصنيف العالمي، تتسبب هذه البيئة في ضرب المؤشرات الرئيسة دفعة واحدة، فضعف التمويل وتقييد الحريات يهبطان بمنحنيات النشر والاستشهاد والاقتباس الدولي، وتسييس التعيينات يعطّل الجودة الأكاديمية في الأقسام والمختبرات، وإغلاق قنوات التعاون يبدد فرص الظهور في قواعد البيانات العالمية التي تغذّي مؤشرات QS وTHE، وقد عبّر مسؤولو التعليم العالي أنفسهم عن أن معايير التصنيفات لا تجد بيئة قابلة للتحقق في الظرف الراهن بسبب آثار الحرب وتداعياتها المالية والمؤسسية، وهذا إقرار داخلي بثقل المعضلة لا جدلًا حولها. (Al-Fanar Media 2022) 
 
ولكي لا يتحول التوصيف إلى قدر محتوم، يمكن رسم مخرج واقعي متعدد المسارات يبدأ بتثبيت مبدأ استقلال الجامعة وحصانتها القانونية والإدارية، ورفع اليد الأمنية والحزبية عن الحرم والمناهج، وتأمين حد أدنى من التمويل التشغيلي والبحثي عبر مزيج من موازنات عامة وصناديق تنافسية وشراكات مانحين، على أن يقترن ذلك بخطة طوارئ أكاديمية لإعادة تشغيل المختبرات والمكتبات الرقمية وتدريب الكادر على معايير النشر والأخلاقيات البحثية، وربط برامج الدراسات العليا باحتياجات الإنقاذ الاقتصادي وإعادة الإعمار، فالتجارب الدولية تؤكد إمكانية النهوض التعليمي بعد الحروب متى توفرت الحوكمة الرشيدة وحرية الأكاديميا والاستثمار الذكي، وقد نجحت بلدان خرجت من نزاعات ممتدة في إعادة بناء رأس المال المعرفي خلال أقل من عقد حين جمعت الاستقرار السياسي بالمساندة الدولية وتحصين استقلال الجامعة. (كارنيغي 2021، تقارير GCPEA وHRW حول حماية التعليم من الهجمات) 
 
خلاصة القول، إن تذيّل الجامعات اليمنية الحكومية للتصنيفات ليس حكمًا مسبقًا ولا مؤامرة، بل انعكاس مباشر لعجز الموارد، وتآكل المؤسسية، وتسييس الحرم، وتخريب المناهج، وهذه عناصر تفاقمت تحت هيمنة الميليشيا الحوثية التي نقلت الجامعة من فضاء المعرفة إلى منصة تعبئة، وبينما يمكن للسلام وتمكين استقلال الجامعة وتمويلها أن يفتح نوافذ عودة تدريجية إلى خرائط التصنيف، فإن أي إصلاح يبدأ من كسر قبضة العنف على الحرم الجامعي ووقف التلاعب الأيديولوجي بالمقررات واستعادة الشرط الأخلاقي والمهني الذي به تقوم الجامعة وتنهض.
 
أ.د. عبدالوهاب العوج
 أكاديمي ومحلل سياسي يمني

ذات صلة