الصورة ليست لرجل مقيد… بل لوطن مخنوق

  • خاص - الساحل الغربي:
  • 06:10 2025/08/01

في الصورة رجل يئن على سرير مستشفى في الجوف، لا تحيط به أنابيب العلاج، لكنها سلاسل الحديد وأقفال الصدأ.. رجل جريح في جسده، مصلوب في آدميته، مكبّل كما يُكبّل الكلاب الضالة، لا كما يُعامل البشر في حالات الطوارئ الطبية.
 
«يحيى مشني» من منطقة المرانة مديرية برط المراشي بمحافظة الجوف، تلقّى رصاصة في جسده إثر خلاف على قطعة أرض –نزاع تقليدي لا يخلو منه أي مجتمع– لا يستوجب أكثر من محضر في قسم الشرطة أو جلسة عرف قبلية، لكن ما فعله به الحوثيون لا يُفسر بنزاع محلي، ولكن بفقدان وتجرد كامل للإنسانية.. فحين تحكمك المليشيا بقانون الغاب ومنطق الغلبة، يصبح الخلاف البسيط سبباً لتقييد المصاب لا المعتدي، ويُساق الجريح لا الجاني إلى قفص العقوبة.
 
ولأن الخصم كان من جماعة "الحق والحكم الإلهي" وأحد أتباع "السيد"، تمتع بحصانة تفوق تلك التي يمنحها القانون للملوك في الدساتير الغابرة.. أما مشني، فكان عليه أن يتجرع الطلقات ثم يُكبل بالأقفال، ويُرمى كما تُلقى الجثث في حظائر المهملات، ويُربط كما تُربط البهائم؛ وكأن الجريمة كانت اختراق الرصاصة لجسده.
 
وهكذا... في قانون الحوثي، لا يُضمد الجرح بل يُعاقب، ولا تُصان الكرامة بل تُنكّس.
فالجرم هنا ليس في إطلاق النار، ولكن في احتكار العقاب؛ فالذي أطلق النار حر طليق، والذي استقبلها في صدره مربوط ككلب ضال في سرير المستشفى.
 
ما حدث هو تعبير واضح وفجّ عن قاعدة حاكمة في مناطق سيطرة الحوثي: فالمشفى فرع للسجن، وكل شيء مراقَب، وكل جسد معرض للبطش، والجريح متهم حتى يثبت ولاؤه.
 
فأمام عيني العالم وبصمته المخزي، تتحول المؤسسات إلى زنازين، وتُداس القيم الإنسانية تحت أقدام الجلادين بثياب الدولة؛ فالحوثي لم يعد يحتاج إلى المحاكم، فالحكم يصدر في الشوارع والعقوبة تنفذ في غرفة العمليات.
 
الناشط الحقوقي عبدالواسع محسن الجمالي قالها صريحةً دون مواربة:
(الصهاينة ما عملوا مثل فعلتكم أيها المليشيات الإرهابية، لماذا تقيدوا المجني عليه وعاده خارج من العمليات وفي مستشفى)؟!
 
وهنا المفارقة المرّة: جماعة تلعن "اليهود" على منابرها، وتتفوق عليهم في الوحشية.. ففي غزة، لم يُنقل جرحى الشجاعية ولا أطفال خان يونس إلى المستشفيات وهم مكبلون، ولم تضع إسرائيل أقفالاً في عنق المصابين كما فعلت جماعة الحوثي، التي تزعم أنها آخر معاقل "المقاومة" في الكوكب... ففي الصورة الحوثي يُقيد مواطناً جريحاً بالسلاسل، ويُساق الى مصيره المحتوم كالكلاب الضالة لأن خصمه أحد المحظيين.
 
السؤال الذي يحتاج إلى تأمل: من هو العدو؟
أهو من يستخدم أجهزة تجسس إسرائيلية لاستباحة هواتف اليمنيين؟
أم هو من يرفع شعارات "اللعنة على اليهود" ويستورد تقنياتهم لقمع الداخل؟
أم من يربط الجرحى بالسلاسل بينما يصرخ كاذباً بشعارات "نصرة غزة"؟ ويجلد اليمنيين بالسياط.
 
ما جرى لمشني هو تجسيد حي لنظام "عدالة الرصيف" الحوثية، حيث الرصاصة تحكم، والسلسلة تفصل، والمشفى أداة قمع... لا دستور، ولا قانون، ولا محكمة، فقط سلاح وولاء.
 
وكل من يرى في هذه الصورة حالة فردية، فهو واهم أو متواطئ؛ فما حدث هنا في الجوف، قد حدث بالأمس في صنعاء، وسيحدث غداً في صعدة وعمران... فالحياد خيانة وتواطؤ، والقبيلة والمواطنة لعنة إذا لم تكن في صف "السيد".
 
ما تفعله جماعة الحوثي هو إعادة بعث لقرون من الظلم الكهنوتي، فلا يسعك إلا أن تتذكر روايات العصور الوسطى حين كانت الكنيسة تُعالج المرضى بـ"القيود المقدسة"، أما الحوثي، فاستبدل القداسة بالوصاية، والطب بالسلاسل، والرعاية بالقمع.
 
الصورة ليست لرجل جريح في مستشفى، لكنها لوطن مكبل في زنزانة؛ فما لم تُكسر هذه السلاسل، وما لم يُحاسب من أمر بتقييد المجني عليه، فكلنا مشاريع أسرى على قوائم التأجيل.
في مناطق سيطرة الحوثي، السلسلة لا توضع على القدم فقط بل على اللسان والذاكرة والحلم. فهو يُقيّد عقول الناس بسياج الخوف ويكبل الصحافة بالسوط ويشنق كل اصوات حرة بتهمة "العمالة".
 
نحن لا نواجه جماعة سياسية ترضح للشرع والقانون والعرف والأخلاق والحوار والمنطق.. بل غزاة محليين بمشروع خارجي، لا تحكم إلا بالخوف ولا تتنفس إلا بالقمع ولا تحيا إلا إذا كانت الحرية مكبلة أمامها بالسلاسل.

ذات صلة