هل شرعت إسرائيل في بناء "بنك أهداف" حوثي؟

  • الساحل الغربي، أ.د. عبدالوهاب العوج
  • 07:24 2025/08/29

في مقال سابق بعنوان "لماذا لا تستهدف قيادات الحوثي؟" (24 أغسطس 2025م، الساحل الغربي)، أشرت إلى الفجوة الاستخباراتية التي تواجهها إسرائيل والولايات المتحدة في رصد بنية الحوثيين القيادية، فقد أثار غياب عمليات نوعية ضد قيادات الصف الأول في جماعة الحوثي تساؤلات متكررة حول القدرات الاستخباراتية الأمريكية والإسرائيلية، وحول ما إذا كان هذا الغياب يعكس عجزًا في المعلومات أم حسابات استراتيجية معقدة، فالضربات الإسرائيلية الأخيرة تستهدف منشآت مدنية يتضرر منها المواطن اليمني ولا تهتم المليشيات الحوثية وقياداتها لمثل هذه الضربات طالما أنها لا تستهدف قيادات الحوثي العسكرية أو السياسية الهامة لها، فمنذ صعود الحوثيين عام 2014 لم تُسجل أي عملية ناجحة ضد شخصيات محورية مثل عبدالملك الحوثي أو محمد عبدالكريم الغماري أو يوسف المداني، على الرغم من أن التجارب السابقة في لبنان والعراق وسوريا أظهرت أن "قطع الرأس" يظل خياراً مفضلاً لإسرائيل عندما تنضج بيئة الأهداف،
 
إلا أنّ الضربات الجوية الإسرائيلية التي استهدفت صنعاء يوم الخميس 28 أغسطس 2025، والروايات الإعلامية عن استهداف اجتماع قيادي يشبه مجلس وزراء حوثياً، تعيد طرح سؤال جوهري حول ما إذا كانت إسرائيل قد شرعت بالفعل في بناء بنك أهداف حوثي فعّال، أم أننا أمام ضربة ظرفية استندت إلى معلومة استخباراتية عابرة، ويعكس هذا التحول رواية إذاعة الجيش الإسرائيلي (IDF Radio) وهيئة البث عن قرار عملياتي سريع بمشاركة نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس ورئيس الأركان إيال زامير، حيث أكد الجيش على ضرب موقع هام للحوثيين في  صنعاء "حي حدة- كما رشح من التسريبات"، لكن النتائج الميدانية ظلّت غير محسومة، وتفاوتت بين تقارير تتحدث عن استهداف قيادات (Associated Press) وأخرى أكثر تحفظاً حول حصيلة الضربة، هذا التباين بين السرديتين الإسرائيلية واليمنية، إلى جانب غياب إعلان حوثي تفصيلي حتى الآن، يفرض التعامل بحذر مع الادعاءات ويشير إلى أن بنك الأهداف، إن وُجد، لا يزال في طور التشكل الأولي،
 
إن أحد أبرز الأسباب التي أعاقت مثل هذه العمليات يتمثل في غياب الاختراق البشري داخل بنية الجماعة، إذ تعتمد واشنطن وتل أبيب على الاستخبارات التقنية مثل الأقمار الصناعية والتنصت الإلكتروني، غير أن الحوثيين تعلموا من تجربة حزب الله في لبنان والحرس الثوري الإيراني أساليب التمويه الأمني، من بينها تجنب استخدام الهواتف الذكية، والاعتماد على الوسطاء في التواصل، والتحرك الدائم مع تغيير المرافقين والحراسات، والانتقال في إطار شبكة اجتماعية مغلقة تتمثل في الهاشمية السياسية وخولان بني عامر، وهو ما يجعل عملية زرع مصادر داخل الدائرة الضيقة شبه مستحيلة، كما أن البيئة القبلية في صعدة وصنعاء توفر حماية اجتماعية طبيعية لهذه القيادات، وهو ما يفسر طول أمد نجاة الصف الأول الحوثي من أي عمليات تصفية رغم الانخراط المباشر في الحرب،
 
ولا يمكن إغفال أن الحسابات الاستراتيجية الأوسع جعلت واشنطن وتل أبيب تضعان الحوثيين في مرتبة أدنى من الأولويات، فالمركز ظل دوماً لإيران وبرنامجها النووي وقدرات حزب الله الصاروخية، ولذلك فإن قتل عبدالملك الحوثي لا يُنظر إليه بنفس الأهمية التي أُعطيت لقتل قاسم سليماني أو عماد مغنية أو حسن نصر الله، غير أن استهداف قيادات الصف الأول من شأنه أن يترك أثراً بالغاً على بنية الجماعة، فعبدالملك الحوثي يمثل المرجعية العقائدية والرمزية، الرابط بين الفكر الجارودي الاثني عشري الإيراني والصياغة اليمنية، ومحمد عبدالكريم الغماري يعد العقل العسكري وراء تطوير القدرات الصاروخية والطائرات المسيّرة، بينما يوسف المداني يقود جبهات ميدانية محورية، ويبرز عبدالخالق الحوثي بصفته قائداً لوحدات النخبة المسيطرة على قوات الاحتياط "الحرس الجمهوري سابقاً"، فيما يمسك عبدالكريم الحوثي بمفاصل الأمن الداخلي عبر وزارة الداخلية واستحداث جهاز استخبارات الشرطة والأمن تحت قيادة علي حسين بدرالدين الحوثي ابن مؤسس الجماعة، في حين يتحكم أحمد حامد "أبو محفوظ" بمفاصل القرار الإداري والمالي والإعلامي للدولة، ويظل محمد علي الحوثي صاحب نفوذ سياسي وجماهيري واسع من خلال اللجان الثورية، أما مهدي المشاط فهو واجهة سياسية أكثر منها قيادية فعلية والامر اكثر بالنسبة للواجهة المسمى رئيس وزراء الحوثيين احمد الرهوي الذي قيل انه قتل بأستهداف منزل في حي حدة بصنعاء.
وبذلك فإن استهداف أي من هؤلاء القيادات العليا لمليشيات الحوثي يعادل ضربة لبنية القيادة نفسها، غير أن الحوثيين لا يعتمدون على القيادات الفردية وحدها، فهناك مؤسسات موازية تشكل رافعة للبنية العقائدية والتنظيمية، وعلى رأسها المجلس الجهادي الأعلى الذي يعمل كهيئة تنسيقية عليا للقرارات العسكرية والعقائدية في تشابه واضح مع مجلس شورى حزب الله، إضافة إلى الهيئة القضائية برئاسة محسن الحمزي التي تضفي غطاء قضائياً ودينياً على القرارات وتستخدم كأداة لتثبيت السيطرة وإخضاع المعارضين، وهو ما يمنح الجماعة قدرة على الاستمرار حتى في حال فقدان أحد أركانها القيادية. فالبنية الهرمية للجماعة تجمع بين القيادة العقائدية العائلية والقيادة العسكرية الميدانية والقيادة المالية الإدارية التي تتكامل مع المؤسسات الموازية لخلق تماسك داخلي يحميها من الانهيار السريع، ومن خلال مقارنة التجارب، يتضح أن الانتقال من استهداف البنية التحتية إلى ضرب القيادة يحتاج إلى شبكة رصد متعددة الطبقات وتعاون استخباراتي إقليمي ودولي، والتجربة اللبنانية منذ 2006 تقدم المثال الأوضح، إذ لم يكن اغتيال حسن نصر الله في الضاحية الجنوبية لبيروت (Reuters) حدثاً معزولاً، بل ذروة مسار طويل من بناء بنك أهداف دقيق، ثم أعقبته تطورات مع طرح اسم هاشم صفيّ الدين كخليفة محتمل قبل أن يُستهدف هو الآخر (Reuters)، ما يؤكد أن منهج "قطع الرأس" أصبح ركناً ثابتاً في العقيدة العملياتية الإسرائيلية تجاه الوكلاء الإيرانيين، وهو ما يفتح الباب أمام مقاربة مشابهة في اليمن إذا نجحت تل أبيب في اختراق البنية الاستخباراتية الحوثية بشكل مستدام،
 
وفي ضوء هذه المعطيات، فإن الضربة التي طالت صنعاء لا يمكن قراءتها على أنها مجرد رد فعل تكتيكي على هجمات الحوثيين بالطائرات المسيّرة، بل قد تكون مؤشراً على بداية مسار جديد، خصوصاً مع ما تردد عن مصرع أحمد الرهوي رئيس حكومة الحوثيين "رجل الواجهة"، إذ أفادت إذاعة الجيش الإسرائيلي أن الهجمات استهدفت بشكل متزامن تجمعات لكبار المسؤولين الحوثيين في عدة مواقع ووصفت العملية بأنها "كبيرة جداً"، فيما ركزت صحيفة Israel Hayom على منازل يُعتقد أن القادة يختبئون فيها، إضافة إلى موقع كان يشهد اجتماعاً قيادياً، وهو ما يعزز فرضية أن الضربة كانت أكثر من رد ظرفي، وربما خطوة أولى في مسار بناء بنك أهداف حوثي شبيه بما جرى مع حزب الله في لبنان.
 
أ.د. عبدالوهاب العوج
أكاديمي ومحلل سياسي يمني

ذات صلة