الموقف الدولي من الحوثيين بين أمن الملاحة والبراغماتية

08:35 2025/08/13

منذ هجمات الحوثيين على الملاحة في البحر الأحمر وباب المندب أواخر 2023، انتقل المشهد الدولي من بيانات الإدانة العامة إلى مقاربة أمنية عملية تركّز على حماية خطوط الشحن. ففي 10 يناير 2024، اعتمد مجلس الأمن القرار 2722 الذي طالب الحوثيين بوقف الهجمات فورًا واعتبرها انتهاكًا لحرية الملاحة وتهديدًا للتجارة العالمية (UNSC Res. 2722, Jan 2024). وقد مرّ القرار بأغلبية 11 صوتًا، مع امتناع الصين وروسيا والجزائر وموزمبيق (UN Meeting Records, Jan 2024)، وهو تفصيل يكشف حدود الإجماع الدولي ويضيء على تموضع بكين التي تفضّل لغة عامة تدعو إلى التهدئة دون تسويات تُحرج علاقاتها الإقليمية أو تعطل تجارتها البحرية. هذا المسار الأممي تواصل في 2025 عبر تجديد آليات المتابعة والتقارير الدورية لتنفيذ القرار ذاته (UNSC Updates, Jan 2025)، ما يعكس إدراكًا بأن الأزمة مرشحة للاستطالة وليست حدثًا عابرًا.
 
على المستوى العملاني، أعلنت الولايات المتحدة في 18 ديسمبر 2023 مبادرة “حارس الازدهار” ضمن القوات البحرية المشتركة (US DoD Statement, Dec 18, 2023) لتأمين الممرات من خليج عدن حتى جنوب البحر الأحمر، ثم شاركت بريطانيا وحلفاء آخرون في عمليات الاعتراض والحماية. وفي 11 يناير 2024، بدأت ضربات أمريكية بريطانية متكررة ضد منصات الإطلاق ومخازن الحوثيين تحت تسمية عملياتية منفصلة (BBC, Jan 11, 2024)، غير أن هذه الضربات بقيت محدودة الأثر الاستراتيجي لأنها لا تستهدف تغيير ميزان القوى على الأرض بل تقليص القدرة على تعطيل الملاحة. وقد أطلقت أوروبا في 19 فبراير 2024 مهمة بحرية دفاعية مستقلة تحت اسم “أسبيدِس” (EU Council Press, Feb 19, 2024) تؤمّن الممرات وترافق السفن المعرّضة للخطر، ما يعني تَشكّل نمط مزدوج يجمع منظومة حماية متعددة الجنسيات بقيادة أمريكية مع مظلة أوروبية دفاعية مكمّلة.
 
اقتصاديًا، فرضت الهجمات منذ ديسمبر 2023 مسار تحويل واسع للسفن حول رأس الرجاء الصالح، وهو ما أعلنته كبرى شركات الشحن مثل ميرسك (Maersk Statement, Dec 19, 2023)، فارتفعت تكاليف التأمين والزمن اللوجستي، وتراجعت عوائد قناة السويس بصورة مؤلمة لمصر خلال عام 2024 (SCA Data, 2024). وقد قدّرت تصريحات مصرية لاحقة حجم الخسائر بعشرات في المئة، بينما أكدت وكالة الطاقة الأمريكية أن تدفقات النفط الخام والمنتجات عبر باب المندب انخفضت بأكثر من النصف في 2024 (EIA, 2024)، وهي أرقام توضّح أن الحوثيين استطاعوا الإمساك بعصب مصالح دول وشركات دون الحاجة لإغلاق المضيق بالكامل.
 
أما الصين فتبدو الأكثر براغماتية بين القوى الكبرى، فهي امتنعت عن التصويت على القرار 2722 (UNSC Res. 2722 Voting Records)، وحافظت على خطاب يدعو إلى ضبط النفس وتسوية سياسية. وفي الخلفية مصلحة صينية مباشرة منذ 2008 في ممرات خليج عدن والبحر العربي عبر دوريات مرافقة لسفنها التجارية ضمن الجهد الدولي لمكافحة القرصنة (PLA Navy Reports, 2008–2023)، أي أن بكين تنظر إلى البحر الأحمر وباب المندب من زاوية سلامة التجارة أولًا، وتتعامل مع الحوثيين كقوة أمر واقع قادرة على التعطيل، فتفضّل مسار التهدئة والتواصل غير الصدامي ما أمكن.
 
ومن أجل مقايسة التاريخ بالحاضر، فإن تجربة مكافحة القرصنة الصومالية بين 2008 و2012 قدّمت وصفة متعددة الطبقات نجحت في خفض الظاهرة إلى حدّها الأدنى، إذ أطلقت أوروبا في ديسمبر 2008 عملية “أتالانتا” تحت تفويض أممي (EU Operation Atalanta Factsheet, 2008) لحماية سفن برنامج الغذاء العالمي وردع القرصنة، وأنشئت في يناير 2009 القوة البحرية المشتركة CTF-151 خصيصًا لمهام مكافحة القرصنة (Combined Maritime Forces, 2009)، كما فعل الناتو بعملية “درع المحيط” (NATO Maritime Command, 2009). وجرى بالتوازي اعتماد “أفضل الممارسات الإدارية” على السفن التجارية واستخدام الحراسة الخاصة على المتن (IMO Best Management Practices, 2010)، ما قلّص فرص النجاح لدى القراصنة ورفع كلفة المخاطرة عليهم. هذه المنظومة نجحت لأنها جمعت بين وجود بحري دائم وقواعد اشتباك واضحة وتدابير صلدة على السفن، وصولًا إلى تطوير تعاون قضائي مع سلطات إقليمية.
 
غير أن القياس لا يساوي المطابقة؛ فالقرصنة الصومالية كانت جريمة منظمة هدفها فدية، بينما الحوثيون فاعل مسلح ذو مشروع سياسي وعسكري مرتبط بمحور إقليمي، ويستخدم الهجمات لتحقيق مكاسب تفاوضية وإحداث أثر جيوسياسي يتجاوز العائد المالي (Chatham House, 2024). لذا فإن النسخة اليمنية من “الحماية البحرية” وإن ضمنت مرورًا آمنًا نسبيًا، لا تنهي الدافع السياسي والقدرة الصاروخية والمسيرة التي تُطلق من عمق جغرافي يمني محمي بشبكات دعم وتسليح، وهو ما توضحه استمرارية الهجمات رغم أشهر من الضربات الجوية، والمراجعات الغربية الناقدة لجدوى القصف المحدود من دون مسار سياسي موازٍ أو تغيير جذري في معادلات الأرض (RAND, 2025).
 
يترتب على ذلك ثلاث خلاصات عملية لصانع القرار اليمني والعربي:
أولًا، أن تثبيت أمن الملاحة لا يتحقق بحماية بحرية فقط، بل بإضعاف القدرة البرية على إنتاج التهديد وإسناده، وهو مسار يحتاج إلى سياسة متماسكة تربط بين الضغط العسكري وقطع سلاسل التهريب والتصنيع وإغلاق النوافذ المالية التي غذّت اقتصاد الحرب منذ 2017 (UN Panel of Experts on Yemen, 2023).
ثانيًا، أن ربط مصالح القوى الكبرى بالشرعية لا يتم بخطاب سياسي بل بعقود ومشروعات وخطط مرور وتراخيص طاقة واتصالات وموانئ تجعل خسارة الشرعية مكلفة لتلك القوى، كما فعل نموذج “المصالح المتبادلة” في مكافحة القرصنة حين ارتبطت جهود الحماية بالعقود والتأمين والتشغيل (World Bank Maritime Security Report, 2012).
ثالثًا، أن إشراك الصين داخل ترتيبات أمن الملاحة ليس ترفًا بل ضرورة، فالصين تمتلك مصلحة مباشرة في الممر وما زالت متحفظة في مجلس الأمن، ومن شأن إشراكها في ترتيبات تجارية وتشغيلية في الموانئ المحررة أن يحوّل كلفة التعطيل إلى دافع ضغط على الحوثيين من خارج الغرب، وهو ما يفك جزئيًا ازدواجية بكين بين لغة الحياد ومقتضيات حماية سلاسل توريدها (CSIS Analysis, 2024)، ويمكن تعزيز ذلك عبر مواءمة الإجراءات العملياتية لـ“حارس الازدهار” و“أسبيدِس” والتدخل اليوناني في منظومة "كينتاوروس" التي تمكنت من إسقاط طائرتين مسيرتين حوثيتين وإجبار طائرتين أخريين على التراجع،
مع التأكيد على سياسات تأمين السفن التجارية وتوحيد قواعد المخاطر والمسارات البديلة بحيث لا تمنح الهجمات أرباحًا سياسية تفوق كلفتها.
 
إن مقارنة تجربة البحر الأحمر اليوم مع مكافحة القرصنة بالأمس تقود إلى نتيجة واضحة: الردع البحري وحده يُخفّض المخاطر لكنه لا يُنهيها حين يكون الفاعل مشروعًا مسلحًا ذي عمق إقليمي وإسناد اقتصادي، وإقناع العالم بالشرعية اليمنية يستلزم ترجمة سياسية واقتصادية تجعل أمن الممرات البحرية مصلحة مشتركة محروسة بعقود وخطط تشغيل، لا بمجرد بيانات، عندها فقط يتحول الحوثيون من ورقة تعطيل إلى عبء مكلف على إيران التي تتزعم من يموّلهم أو يغذي قدرتهم على إعادة إنتاج التهديد.
 
أ.د.عبدالوهاب العوج
أكاديمي ومحلل سياسي يمني