الجوع تهمة... والجوع قنبلة

  • خاص - الساحل الغربي:
  • 03:37 2025/10/16

قبل عقدٍ من الزمن، حين دخل الحوثيون صنعاء، رفعوا على الجدران شعاراً منسوباً للإمام علي بن أبي طالب:
عجبتُ لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه.
 
كان الشعار آنذاك يبدو كبيانٍ ثوريٍّ يعكس انحيازاً للفقراء.
لكن بعد عشر سنوات، تحوّل هذا الشعار ذاته إلى جريمةٍ لا تُغتفر، ممنوع النطق به.
فمن يقول اليوم (أنا جائع) في مناطق سيطرة الحوثيين، يُعتقل بتهمة "التجسس" أو "التخابر" أو حتى "التصهين".
وكأن الجوع في قاموس الحوثيين مشروعاً معادياً ومؤامرة كونية تُدار من غرف استخباراتٍ غامضة في الخارج.
هكذا يُراد إقناع الناس أن الجوع والفقر والتدهور ليس نتيجة فشلٍ ذريعٍ صنعوه بأيديهم، بل مؤامرة تُحاك ضدهم –مع سبق الإصرار– وبوقاحةٍ من القمع واللامبالاة لا تخطئها العين.
 
الناشط السياسي رشاد الصوفي كتب تغريدة مقتضبة على منصة X، لم يكن فيها محرضاً ومزايداً بقدر ما كانت إنذاراً مبكراً، قال فيها:
لا عاصم لكم من غضب الشعب إن حركته غريزة الجوع.
 
تلك العبارة تختصر معادلة السلطة والجوع في أي نظامٍ يراهن على القمع أكثر من الرغيف.
فالأنظمة تستطيع أن تشتري ولاءات خصومها، أو تقمعهم، أو تساومهم على المناصب والمكاسب.
لكنها لا تستطيع أن تساوم البطون الخاوية.
فالجوع لا يدخل في مفاوضات، ولا يوقّع اتفاقات، ولا ينتظر مؤتمراتٍ للحوار.
إنه الغريزة الأكثر صدقاً، والأكثر خطورة، حين تنفجر في وجه من يتجاهلها.
 
في مناطق سيطرة الحوثيين، رُفع شعار "الصمود" كمنهج حياة شامل، حتى صار الجوع والمرض هما الصمود الحقيقي في وجة الحوثي.
أكثر من ثلثي اليمنيين اليوم يعيشون تحت خط الفقر، لا يجدون قوت يومهم.
المعلم يُدرّس وهو جائع، والموظف يعيش بالدَّيْن والمهانة، والأمّ تُطعم أبناءها الخبز اليابس إن وجدته، والمريض يموت على أبواب المستشفيات.
في المقابل، يستمر الإعلام الحوثي في بثّ أناشيد وشعارات المقاومة والتعبئة والحشد والصمود ونصرة غزة، وكأن الكلام يُغني عن الخبز، وكأن الولاء يمكن استخراجه من بطونٍ فارغة.
 
وبين الشعار والواقع تتسع الفجوة كل يوم، حتى صار الكلام هو الوجبة الوحيدة المتاحة.
إنها سياسة الخطاب المشبع: حيث تُستبدل الكلمة بالكسرة، ويُصنع الانتماء عبر تكرار الأناشيد لا عبر تحسين المعيشة.
 
لكن للتاريخ منطقه الذي لا يُخالفه أحد:
الجياع لا يفاوضون، ولا يُقنعهم أحد، ولا يرحمون أحداً.
فعندما تتحرك غريزة الجوع، تسقط الشعارات، وتسقط معها العروش.
من (عجبتُ لمن لا يجد قوت يومه) إلى (لا عاصم لكم من غضب الشعب) مسافة عقدٍ من التناقضات، وعقدٍ من الجوع المؤجل، والغضب المكبوت.
 
يمكن للحوثيين أن يكتبوا ما يشاؤون على الجدران، وأن يملؤوا الشاشات بالخطابات والأناشيد.
لكنهم لن يستطيعون أن يكتبوا على المعدة الفارغة، ولا أن يخاطبوا الجوع بالبلاغة.
فالمعدة لا تفهم لغة النشيد، بل لغة الخبز.
ومن يظن أن الجوع يُخضع بالاتهامات، سينسى أن كل الثورات بدأت بالتخوين والقمع والاستبداد... وانفجرت من لقمةٍ مفقودة.

ذات صلة