الغارات الإسرائيلية على صنعاء بين سياق التصعيد الإقليمي ومعادلات الوساطة في غزة

  • الساحل الغربي، أ.د. عبدالوهاب العوج
  • 07:11 2025/08/30

الملخص:
يبحث هذا المقال في الدلالات الاستراتيجية للغارات الإسرائيلية الأخيرة على صنعاء والتي استهدفت وفق روايات عبرية قيادات حوثية بارزة، بينما نفت الجماعة ذلك مؤكدة أن الضربات طالت مواقع مدنية و يأتي هذا التطور في لحظة حساسة تتزامن مع تقارير عن موافقة مبدئية من حركة حماس على خطة هدنة بوساطة مصرية قطرية، مما يربط الحدث بسياقات جيوسياسية إقليمية أوسع تشمل الحرب في غزة، الدور الإيراني، أمن الملاحة في البحر الأحمر، والتحولات في معادلة الردع بين إسرائيل ووكلاء طهران. المقال يقدم قراءة تحليلية معمقة للأبعاد العسكرية والسياسية والاستخباراتية والاقتصادية، ويطرح سيناريوهات مستقبلية محتملة.
 
المقدمة:
الغارات الجوية التي شنتها إسرائيل على العاصمة اليمنية صنعاء في الخميس الماضي 28 أغسطس 2025م جاءت في سياق متشابك مع ملفات إقليمية متداخلة. وسائل إعلام إسرائيلية مثل "هآرتس" و"معاريف" تحدثت عن مقتل شخصيات قيادية في الجماعة الحوثية من بينها أحمد غالب الرهوي الذي يشغل موقع "رئيس حكومة" غير معترف بها، إلى جانب وزير الدفاع محمد ناصر العاطفي ورئيس الأركان محمد عبد الكريم الغماري (هآرتس، 2025). في المقابل نفت الجماعة هذه الأنباء ووصفتها بأنها استهداف لأعيان مدنية وعدوان فاشل (المسيرة، 2025).
 
وذكرت القناة الإسرائيلية أن وزير الدفاع في حكومة الانقلاب الحوثي "العاطفي" ورئيس الأركان العسكرية "عبدالكريم الغماري" كانا في طريقهما إلى موقع اجتماع "حكومة صنعاء" قبل وقت قصير من الغارة، لافتة إلى أنهما "وصلا على ما يبدو في اللحظة التي وقع فيها الانفجار"،
وفي وقت سابق الجمعة 30 أغسطس، قال جيش الاحتلال الإسرائيلي إن مقاتلاته استهدفت رئيس أركان جماعة الحوثي المدعومة إيرانيًا، ووزير دفاعها وشخصيات بارزة أخرى، في غارات جوية على صنعاء الخاضعة بقوة السلاح لسيطرة الجماعة ولا يزال يتحقق من النتائج.
 هذا التضارب يعكس فجوة في التقييم الاستخباراتي، حيث إن الرهوي تحديداً لا يعد من القيادات العليا الفاعلة بل مجرد واجهة شكلية لا يمتلك سلطة فعلية في صناعة القرار داخل الجماعة، بينما القيادات ذات الوزن الاستراتيجي مثل عبد الملك الحوثي، محمد علي الحوثي وأبو علي الحاكم لم يُستهدفوا (معهد واشنطن، 2025).
 
التحليل:
الفجوة الاستخباراتية الإسرائيلية تكررت في أكثر من ساحة، من غزة إلى لبنان وصولاً إلى اليمن، حيث تبالغ إسرائيل أحياناً في إعلان نجاحات عملياتية لتثبيت صورة الردع داخلياً وخارجياً (جيروزاليم بوست، 2025). إعلان استهداف "قيادات عليا" في صنعاء دون تقديم أدلة دامغة يفتح الباب أمام فرضية الاستخدام الدعائي للعملية أكثر من كونه اختراقاً نوعياً ناجحاً.
 
توقيت الغارات ارتبط بتقارير عن قبول حماس بخطة هدنة عبر وساطة مصرية وقطرية (رويترز، 2025). بالنسبة لإسرائيل، أي تهدئة محتملة في غزة قد تتيح لحماس إعادة التموضع، وهو ما يدفعها إلى توجيه رسائل ردع إلى الأطراف الإقليمية الأخرى المتحالفة مع إيران، ومن ضمنها الحوثيون. الضربات في صنعاء بذلك تحمل مغزى مزدوج: أولاً محاولة تقويض أي قدرة للحوثيين على استثمار لحظة التفاوض لصالح إيران؛ ثانياً طمأنة الداخل الإسرائيلي بأن الحكومة تواصل ضرب خصومها حتى خارج الجبهة المباشرة.
 
الأبعاد الإيرانية حاضرة بقوة. الحوثيون يمثلون جزءاً من شبكة "وكلاء إيران" الممتدة من العراق إلى سوريا ولبنان واليمن (معهد كارنيغي، 2024). استهدافهم في لحظة تفاوضية يرسل إشارة مباشرة إلى طهران مفادها أن خطوط دعمها اللوجستية عرضة للاختراق. لكن في المقابل، غياب إصابات مؤكدة في صفوف القيادات الفعلية يضعف الرسالة الردعية ويمنح إيران حجة لتعزيز الدعم دون الانزلاق إلى مواجهة مباشرة.
 
انعكاسات الحدث على أمن الملاحة واضحة. أي رد حوثي مرجح أن يركز على البحر الأحمر ومضيق باب المندب باعتبارهما أوراق ضغط استراتيجية. عودة التصعيد في هذا الممر الحيوي تعني اضطراباً في سلاسل التوريد العالمية، ارتفاع تكاليف الشحن والتأمين، وزيادة الوجود العسكري الدولي كما حدث في أزمات سابقة (فايننشال تايمز، 2024).
 
الأبعاد الاقتصادية العالمية تكشف خطورة الموقف. البحر الأحمر يمثل شرياناً أساسياً لحركة التجارة حيث يمر عبره ما يقارب 12-15% من التجارة العالمية وقرابة 30% من شحنات الحاويات (الإيكونوميست، 2024). أي اضطراب في هذا الممر يؤدي إلى تحويل مسارات السفن نحو رأس الرجاء الصالح، مما يضيف ما بين 10 إلى 14 يوماً على زمن الرحلة ويزيد تكلفة الشحن بمعدل يتراوح بين 40 و60% (رويترز، 2024). شركات الملاحة الكبرى مثل "ميرسك" و"Hapag-Lloyd" سبق أن علقت مرورها عبر البحر الأحمر أثناء موجة هجمات الحوثيين في 2023 و2024. كما ارتفعت أقساط التأمين البحري على السفن العابرة للمنطقة من 0.05% إلى أكثر من 0.5% من قيمة البضائع، ما يترجم إلى مليارات الدولارات في كلفة إضافية سنوياً (فايننشال تايمز، 2024). هذه المعطيات تجعل أي تصعيد جديد لا يؤثر فقط على إسرائيل أو المنطقة بل على النظام التجاري العالمي بأسره، خصوصاً أوروبا التي تعتمد بشكل كبير على إمدادات الطاقة والبضائع القادمة عبر قناة السويس.
 
بالنسبة للجماعة الحوثية، الاعتراف باستهداف قيادات عليا يمثل ضربة معنوية كبيرة، لذلك تمسكت برواية أن الضربات لم تحقق أهدافها. في المقابل، تسويق إسرائيل لرواية النجاح رغم الفجوة الاستخباراتية يساهم في الحفاظ على صورة الردع لكن مع مخاطرة بكشف التضخيم إذا لم تتأكد الأنباء.
 
السيناريوهات المستقبلية:
سيناريو الاحتواء النسبي: الحوثيون يكتفون برد محدود في البحر الأحمر لتثبيت حضور رمزي دون تصعيد واسع، فيما تواصل الوساطات المصرية والقطرية جهودها لتمرير هدنة في غزة. هذا السيناريو يمنح الأطراف فرصة لالتقاط الأنفاس لكنه يبقي جذور الأزمة قائمة.
سيناريو التصعيد المحدود الممتد: الحوثيون يوسعون عملياتهم البحرية والصاروخية ضد أهداف إقليمية ودولية، ما يستدعي ضربات إضافية من إسرائيل أو تحالفات غربية وخليجية و هذا السيناريو يرفع كلفة الأمن البحري ويؤخر فرص التهدئة في غزة،
سيناريو الاشتعال الإقليمي: وهو الأقل احتمالاً لكنه الأخطر، حيث تقرر إيران الرد عبر جبهات متعددة مستخدمة وكلاءها، مما يفتح الباب أمام مواجهة واسعة تشمل البحر الأحمر ولبنان وربما الخليج، وهذا السيناريو يهدد الاستقرار الإقليمي ويضع الاقتصاد العالمي أمام صدمة جديدة.
 
الاستنتاج:
الغارات الإسرائيلية على صنعاء لم تحقق اختراقاً نوعياً في البنية القيادية للحوثيين، بل أظهرت استمرار الفجوة الاستخباراتية لدى إسرائيل وعجزها عن الوصول إلى القيادات الفعلية للجماعة، أحمد غالب الرهوي الذي رُوّج لمقتله ليس سوى واجهة شكلية بلا تأثير حقيقي، مما يقلل من الأثر الاستراتيجي للعملية، لكن في الوقت نفسه، الحدث يسلط الضوء على خطورة تداخل الملفات الإقليمية، حيث تتقاطع وساطة غزة مع تصعيد البحر الأحمر ومعادلات الردع بين إسرائيل وإيران، و الأبعاد الاقتصادية التي تكشف أن أي تصعيد حوثي في البحر الأحمر سيصيب النظام التجاري العالمي بأكمله بالخلل، مما يجعل الأزمة أبعد من كونها مواجهة عسكرية محلية إلى تهديد مباشر للاستقرار الاقتصادي الدولي و هذه البيئة شديدة الميوعة و التي تجعل المنطقة عرضة لتحولات مفاجئة، ما يفرض على الوسطاء الإقليميين (مصر وقطر) مضاعفة جهودهم لعزل مسارات التفاوض عن التصعيد الجيوسياسي الأوسع.
 
المراجع:
هآرتس، تقرير حول الغارات الإسرائيلية في صنعاء، أغسطس 2025.
المسيرة، بيان جماعة الحوثي حول استهداف صنعاء، أغسطس 2025.
رويترز، تقارير عن موافقة حماس على خطة هدنة بوساطة مصرية قطرية، أغسطس 2025.
جيروزاليم بوست، تحليلات عن الثغرات الاستخباراتية الإسرائيلية، يوليو 2025.
معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، تقارير حول الحوثيين ودور إيران الإقليمي، 2025.
معهد كارنيغي للسلام الدولي، ورقة بحثية عن شبكة وكلاء إيران، ديسمبر 2024.
فايننشال تايمز، تقارير عن تداعيات اضطراب الملاحة في البحر الأحمر، 2024.
الإيكونوميست، تقرير عن حركة التجارة عبر قناة السويس والبحر الأحمر، 2024.

ذات صلة