فؤاد.. معلمٌ اختطفته المليشيا وأعادته الغربة إلى مقصّ الحلاقة

  • خاص - الساحل الغربي:
  • 09:37 2025/08/19

في أحد أحياء القاهرة الشعبية، يجلس فؤاد محمد اللحبي خلف كرسي الحلاقة الذي تحول إلى مصدر رزقه الوحيد.. يقص الشعر بصمت، فيما ترتسم على ملامحه ابتسامة متعبة تخفي خلفها حكاية اغتراب وقهر لم يتوقع يوماً أن يعيشها.
 
يقول بصوت يحمل مرارة التجربة:
«كنت معلماً في حجة، واليوم أنا مجرد مغترب يبحث عن لقمة العيش.. لم أخسر المهنة فقط بل خذلني الوطن مرتين».
 
من حلم القانون إلى مطاردة الحرم الجامعي
 
وُلد فؤاد في محافظة حجة شمال غرب اليمن، وكان يحلم بأن يصبح رجل قانون.. التحق بكلية الشريعة والقانون في جامعة صنعاء، وواصل دراسته حتى سنته الرابعة؛ لكن الأحداث الأمنية والسياسية قلبت مساره رأساً على عقب.
 
حينها كان الطلاب يرفعون أصواتهم ضد عسكرة الحرم الجامعي وانتشار المسلحين، فوجد نفسه ضمن قائمة مطاردة، وصدر قرار بحرمانه من دخول قاعات الامتحان، لتتوقف مسيرته الأكاديمية عند عتبة لم يكن يتوقع أن تكون الأخيرة.
 
«لم يكن ذنبي سوى أنني طالبت بجامعة آمنة» يقول فؤاد مستعيداً تلك اللحظة التي أغلقت أمامه أبواب المستقبل.
 
من صنعاء إلى القاهرة.. ثم العودة القاسية
 
غادر فؤاد إلى مصر بحثاً عن حياة طبيعية بعيداً عن الملاحقة.. حاول أن يبدأ من جديد، لكن الغربة أثقلت كاهله، ومدخراته سرعان ما نفدت؛ اضطر للعودة إلى اليمن مطلع عام 2022 برفقة أسرته، آملاً في استقرار يخفف عنهم ضغوط الغربة.
 
غير أن الأمل تبدد سريعاً.. بعد عشرة أيام فقط من وصوله إلى حجة، اقتاده مسلحون من أمام منزله إلى مبنى المباحث.. خضع لتحقيقات مطولة وواجه اتهامات بـ"الخيانة" و"الارتزاق" على خلفية منشورات في "فيسبوك"؛ لم يقف الأمر عند ذلك بل تعرض لتعذيب جسدي ونفسي ترك ندوباً ما تزال تؤلمه حتى اليوم.
 
أُفرج عنه لاحقاً بضمانات قبلية، مقابل خضوعه لما سُميت بـ"دورات ثقافية" تفرضها المليشيا، في مشهد يصفه قائلاً:
«حتى الحرية كان ثمنها أن يُعاد تشكيل أفكارك بالقوة».
 
هروب جديد.. حياة بلا استقرار
 
لم يستطع فؤاد البقاء في مدينته.. هرب متخفياً إلى صنعاء، ثم إلى عدن، قبل أن يشق طريق العودة إلى مصر من جديد.. ومنذ ذلك الحين، يعيش حياة المغترب بلا استقرار ولا سند، متنقلاً بين قيود الحاجة ومرارة الغربة.
 
المفارقة المؤلمة أن الرجل الذي كان يُدرّس الأجيال في فصول حجة، وجد نفسه اليوم يعمل حلاقاً لإعالة أسرته؛ مهنة يصفها بأنها "شريفة وصعبة" لكنها محاطة في المجتمع اليمني بنظرة دونية تزيد من قسوة التجربة.
 
قصة فرد.. ومرآة وطن
 
قصة فؤاد ليست مجرد سيرة شخصية بل مرآة تعكس مصير آلاف اليمنيين من معلمين وطلاب ومثقفين تقطعت بهم السبل بين الداخل والخارج.. وطنٌ يغلق أبواب الجامعات في وجوه أبنائه، ويطاردهم خلف شاشات التواصل، فلا يترك أمامهم سوى خيار الصمت أو الهروب.
 
وفي محله الصغير في القاهرة، يرفع فؤاد عينيه نحو صورة عائلته المعلّقة على الجدار، قبل أن يتمتم بحزن وأمل متداخلين:
«الوطن الذي يطرد أبناءه، لن يجد في الغربة سوى غرباء يفتقدونه.. ومع ذلك، ما زلنا نحلم بعودة كريمة، حتى لو طال الطريق».

ذات صلة