02:32 2025/09/07
06:53 2025/09/05
07:17 2025/09/03
نقل المنظومة المصرفية إلى عدن: هل فعّل الريال أم صنع وهمًا نقديًا؟
09:07 2025/08/02
في خضم الاضطراب الاقتصادي الذي يطوّق اليمن منذ أكثر من عقد، برزت خلال يوليو وأغسطس 2025 سلسلة من التحركات التي اتخذها البنك المركزي اليمني في عدن، وفي مقدمتها الإعلان عن نقل المنظومة المصرفية بالكامل من صنعاء إلى عدن، وتكثيف العقوبات على شركات الصرافة غير المرخصة. وقد تزامن ذلك مع تراجع ملحوظ في سعر الدولار الأمريكي مقابل الريال اليمني، ما أثار موجة من التفسيرات والآمال، دون أن يحجب التساؤلات الكبرى حول طبيعة هذا "التعافي"، وحقيقة أسبابه، ومدى قابليته للاستمرار في ظل هيكل اقتصادي منهك ومفتّت.
أولًا: التمهيد النظري – وهم مصطنع لحالة التعافي النقدي في الاقتصاديات الهشة ومنها اليمن
العديد من الدول الخارجة من الحروب أو النزاعات تشهد في لحظات معينة تحسنًا مؤقتًا في مؤشرات العملة الوطنية أو سعر الصرف، يتم تفسيره أحيانًا على أنه بداية "تعافٍ اقتصادي". إلا أن الدراسات النقدية تؤكد أن هذا النوع من التعافي هو غالبًا تعافٍ زائف أو موضعي، لا يستند إلى تحولات إنتاجية أو إصلاحات مالية حقيقية، بل إلى عوامل ظرفية أو تدفقات خارجية مؤقتة. وهو ما شهده لبنان بعد انتفاضة 2019، وسوريا بعد بعض الإجراءات الشكلية في 2020، والسودان بعد بعض محاولات التعويم غير المدعومة، وليبيا بعد عمليات ضخ مفاجئ من العملة في مناطق الشرق. في جميع تلك الحالات، سرعان ما تراجع سعر العملة المحلية بمجرد انحسار الظروف المحفّزة، أو عودة المضاربين للسوق السوداء، أو تجدد الانقسام المؤسساتي.
ثانيًا: السياق اليمني – قرار نقل المنظومة المصرفية وتداعياته
قرار البنك المركزي اليمني في عدن بنقل المنظومة المصرفية يمثل تحوّلًا مؤسسيًا ذا أبعاد سياسية ومصرفية. فمن جهة، هو محاولة لاستعادة السيادة المالية الكاملة من يد الحوثيين الذين استمروا، حتى بعد نقل البنك في 2016، في استخدام شبكات مصرفية موحدة وفرض رقابة موازية على البنوك التجارية. ومن جهة أخرى، هو إعلان رمزي لتثبيت العاصمة المؤقتة كمركز للقرار النقدي، وتأكيد الاعتراف الدولي بالبنك المركزي في عدن كمؤسسة شرعية ووحيدة مخوّلة بإدارة السياسة المالية. ومع ذلك، فإن فعالية القرار على الأرض ما تزال محدودة، نظرًا لضعف الاستجابة الفعلية من البنوك، واستمرار الانقسام البنيوي بين عدن وصنعاء، ومحدودية القدرات التكنولوجية والرقابية في عدن، ناهيك عن اختراقات شبكات الفساد داخل المؤسسة النقدية نفسها.
ثالثًا: أثر الإجراءات الرقابية على شركات الصرافة
أطلق البنك المركزي اليمني خلال يونيو ويوليو 2025 حملة متوسعة شملت إغلاق أكثر من ستين شركة ومحال صرافة غير مرخصة في مناطق متفرقة، وفرض غرامات على أخرى، وتهديد بعضها بالتحويل إلى النيابة العامة. وقد أدّت هذه الحملة إلى تراجع نسبي في حركة المضاربة اليومية، وتحسن مؤقت في الالتزام بأسعار الصرف الرسمية، خاصة في عدن. إلا أن الأسواق السوداء عادت للانتعاش في مناطق أخرى كالمكلا، وريف تعز، ومناطق غير خاضعة لرقابة البنك، مما يعكس محدودية السيطرة الشاملة.
رابعًا: ما وراء انخفاض سعر الصرف المتسارع؟
انخفض سعر صرف الدولار الأمريكي من مستويات قاربت ثلاثة آلاف ريال إلى أقل من ألف وتسعمائة في عدن، وفق مؤشرات السوق خلال النصف الثاني من يوليو. لكن هذا الانخفاض لا يمكن عزوه إلى الإجراءات الرقابية وحدها، بل هو نتيجة تداخل جملة من العوامل:
أولًا، عاد البنك المركزي في عدن إلى سياسة المزادات الرسمية لبيع الدولار، بدعم سعودي ضمني، ما أدى إلى امتصاص جزء من الطلب التجاري.
ثانيًا، انخفض الطلب الموسمي على الدولار بعد رمضان ومواسم الأعياد، بالتزامن مع موسم الصيف وعودة المغتربين بما يحملونه من عملة أجنبية، وهو ما يتكرر كل عام تقريبًا.
ثالثًا، ازدادت التحويلات المالية من المغتربين اليمنيين، خصوصًا في دول الخليج، في موسم الحج والعطلات، وهو ما ضخ كميات ملحوظة من العملة الصعبة في السوق.
رابعًا، صدرت مؤشرات سياسية إيجابية من الرياض، عقب زيارة الحكومة اليمنية لها، وورود إشارات عن قرب تشكيل حكومة جديدة، ما عزز الثقة المؤقتة لدى المتعاملين.
خامسًا: المقارنة مع التجارب الإقليمية المشابهة
الحالة اليمنية لا يمكن قراءتها دون مقارنتها بتجارب دول عانت من أزمات مركبة بين الاقتصاد والنقد والسياسة. في سوريا، اعتمد النظام على إجراءات متكررة لتقييد تداول الدولار داخل مناطق سيطرته، وفرض تسعيرات وهمية على السوق، مما أدى إلى تحسن جزئي في سعر الليرة، سرعان ما انهار مع أول موجة عقوبات جديدة أو مع عودة الطلب على الدولار. في لبنان، بعد إعلان تشكيل حكومة في 2021، شهد سعر الليرة تحسنًا من حدود خمسة وعشرين ألفًا إلى ما دون العشرة آلاف، لكن هذا التحسن تبخر لاحقًا بسبب غياب إصلاحات حقيقية، واستمرار الانقسام السياسي، والتهريب عبر الحدود. في السودان، حاولت الحكومة الانتقالية تنفيذ تعويم جزئي للجنيه، بدعم من البنك الدولي، لكن غياب الثقة، وضعف القطاع المصرفي، وتدهور الوضع السياسي، قاد إلى انهيار سريع للعملة في غضون أسابيع. أما في ليبيا، فإن وجود مصرفين مركزيين في الشرق والغرب، وخضوع النظام المالي لمراكز قوى مسلحة، جعل أي تحسن في سعر الدينار محدود الأثر، وغير قابل للاستمرار. جميع هذه النماذج تُظهر أن أي تعافٍ نقدي لا يستند إلى إصلاح مؤسسي وسياسي حقيقي، وشفافية في الإدارة، وتوحيد في الإيرادات والإنفاق، سيظل هشًا، ويقع في دائرة الانهيار مرة أخرى.
سادسًا: هل تعافى الريال فعليًا؟
الريال اليمني يشهد حاليًا حالة من الاستقرار النسبي في السعر، لكنه لا يعكس تعافيًا حقيقيًا. فمقومات التعافي غائبة، والطلب الداخلي على العملة الوطنية لا يزال ضعيفًا، والاحتياطات النقدية في البنك المركزي غير كافية، والدعم الخارجي محدود زمنيًا وغير مضمون الاستمرار. العملة اليمنية تتنفس مؤقتًا عبر جهاز دعم خارجي، وليس عبر اقتصاد منتج أو منظومة مالية فعالة. وهذا ما يجعلها عرضة للنكسة في أي لحظة، ما لم يتم الانتقال إلى استراتيجية إصلاح حقيقي تشمل توحيد البنك المركزي، وإعادة ضبط المنظومة المصرفية، وفرض رقابة صارمة على تحويلات السوق.
خاتمة
الإجراءات التي اتخذها البنك المركزي اليمني مهمة ومطلوبة، لكنها حتى الآن أشبه بالخطوات الإسعافية في غياب غرفة إنعاش كاملة. وما يزال الريال اليمني متصلًا بأجهزة دعم خارجي، ينتظر إنعاشًا حقيقيًا عبر إصلاحات اقتصادية وهيكلية شاملة تبدأ بإعادة تصدير النفط والغاز، وتحسين الناتج المحلي والقومي، وعودة الاستثمارات والمال المهاجر، وإصلاح القنوات الإيرادية، وتشغيل وإنشاء مصافي النفط، ولجم الفساد المالي في أجهزة الدولة اليمنية. بدون ذلك، فإن التعافي النقدي لن يتحقق عبر ضبط السوق فقط، بل يتطلب إصلاح النظام المالي برمّته، ودمج المؤسسات، واستعادة الثقة، وتوفير بيئة سياسية مستقرة. وما لم يتم التعامل مع الاقتصاد اليمني كملف سيادي وطني شامل، فإن أي تحسن في سعر الصرف سيظل موضعيًا، وسرعان ما يتلاشى، كما حدث في تجارب مشابهة، كان الريال فيها "يتنفس قليلًا" ثم يختنق من جديد.
المراجع:
تقارير البنك المركزي اليمني، يوليو وأغسطس 2025.
نشرات البنك الدولي حول اليمن 2023–2024
نشرة أسعار الصرف الرسمية ومزاد البنك المركزي– عدن.
تقارير موقع "الليرة اليوم" و"مصرف سوريا المركزي".
تقارير "رويترز" و"العربي الجديد" حول الوضع الاقتصادي في لبنان.
دراسة البنك الدولي عن الاقتصاد السوداني (2022).
تقارير صندوق النقد الدولي حول ليبيا (2021–2023).
-----
*أكاديمي ومحلل سياسي يمني